ليس هناك من هو أرق قلباً وأنبل عاطفة من ساسة البلدان الغربية، الاستعمارية سابقاً وراهناً. تضرب أميركا اليابان بقنبلتين ذريتين باركهما أحد رجال الدين وكتب عليهما بخط يده صلاة تضرع إلى الله أن يأمرهما بقتل أكبر عدد من ذوي العيون المائلة والوجوه الصفراء، وهو ما لم تكن القنبلتان بحاجة إلى من يذكرهما به، فقد قتلتا وجرحتا وبخرتا وفحمتا مئات آلاف الآمنين، الذين أحرقتهم نيران سعرها بانفجار بلغت حرارته نيفا وثلاثة آلاف درجة مئوية، حول إلى هباء مدينتي هيروشيما وناغازاكي، اللتين اشتعلتا كعودي ثقاب قبل أن تتحولا إلى غبار ابتلع البشر والحجر.
لو أسست اليوم لجنة تحقيق في الجريمة، التي صار اسمها بمرور الوقت «الواقعة»، لألقت مسؤوليتها على سياسي لم يعد أحد يذكر اسمه، ولعبر تقريرها عن الندم على قراره الخاطئ، ولذرفت دموع غزيرة بعد أعوام من البحث عن أدلة لا لزوم لها، لأن الدليل الجرمي متوفر بالصوت والصورة وبشهادات الطيارين الذين القوا القنبلتين، وبرقية رئاسة أركان جيش اليابان إلى القيادة العسكرية الأميركية في المحيط الهادي، التي تعلن استسلام اليابان دون قيد أو شرط، قبل أربع وعشرين ساعة من الهجوم الأميركي النووي، الذي كان ترومان، رئيس أميركا أعطى الأمر بشنه، يعلم أنه سيستخدم سلاحا لم يسبق أن طور أحد من قبل سلاحاً يجاريه في قدراته التدميرية، فعلق ببرود: أريد أن يرى السوفييت هذا. كي يرى السوفييت هذا ويخافوا، كان من الضروري إحراق مئات آلاف اليابانيين وهم نيام، وتعويضهم عن الحياة بذرف بعض الدموع عليهم، هذا، إن تقرر تشكيل لجنة تحقيق في الحادث. لكن واشنطن رفضت تشكيل لجنة كهذه، والاعتذار عن استخدام السلاح الذري ضد مدنيين، وبعد نهاية الحرب.
ـ زعموا أن العراق يملك أسلحة فتاكة، نووية وجرثومية وكيميائية، تهدد كل مواطن في العالم، وأن الضرورة تحتم ملاقاة خطره في بلاده، قبل انتقاله إلى خارجها. وأضافوا: من الطبيعي أن تكون ملاقاة طاغية وسفاح نووي/ كيميائي بالسيف.
وبالفعل، فقد جردوا سيوفهم وانقضوا على العراق ودمروه تدميرا شاملا، ليس فقط بما تعرض له من قصف، بل كذلك بمن نصبوهم حكاما عليه لم يكن «الطاغية السفاح» غير نقطة في بحرهم، في كل ما يتصل بالطغيان وسفك الدماء والخراب الأخلاقي/ الروحي، الذي ألقى بشعب قاد الحضارة الإنسانية طيلة قرون في هاوية همجية بلا قاع، انحط بعض المحسوبين عليهم إلى درك من الوحشية لا تقارن به حتى وحشية الكواسر والمفترسين.
هذه المرة، شكلوا لجنة ذرفت قدرا من الدموع يكفي لإغراق العراق، لكنه لا يكفي لغسل الدماء عن أيدي المجرمين الذين دمروه أو لتبييض صفحتهم.
وكالعادة، أبدت الندم الشديد، لان رئيس وزراء بريطانيا خدع الشعب والبرلمان، واختلق أكاذيب ادعت أن العراق يمثل خطرا على العالم، تبين للجنة أن الحرب التي شنها ضد بغداد «لم تكن شرعية»، وأن المسؤول عنها هو طوني بلير، الذي تأكدت من انه تولى بمفرده تضليل البرلمان وأحزابه والشعب والصحافة والرأي العام... إلخ، وجر بلاده إلى حرب لم يكن لها أي مسوغ. بذلك، «بتكون الشغلة طلعت برأس بلير»، الذي غادر منصبه كرئيس للوزراء منذ نيف وعقد، وينجو النظام وبرلمانه وأحزابه وإعلامه وجيشه.. إلخ، ويتحقق الهدف من تشكيل اللجنة.
لو شكلت اللجنة قبل الحرب، وعارضتها لأنها غير شرعية وتستند إلى أكاذيب، لكنا أمام حالة رائعة من النزاهة السياسية والأخلاقية. أما أن تعلمنا اليوم، وبعد قرابة عقد ونصف من تدمير العراق، بما كنا نعرفه ونقوله دوما، وأن تدين شخصا لتنزه نظام بريطانيا ومؤسساته، فهذا يثبت عكس ما أرادته: انعدام النزاهة السياسية والأخلاقية لدى دولة لا بد أن نعتبرها مارقة، ما دام شخص قد تمكن بمفرده من سوقها إلى حرب خاضتها بحماسة واندفاع، ورفضت أن ترى ما فيها من أكاذيب، بينما تعارض بإصرار وحزم وقف مجازر بشار الأسد ضد شعب سوريا المسالم، رغم حقائق مرئية ودامغة تؤكد ما يرتكبه من جرائم ضد أبرياء طالبوا بحقهم في الحرية، الذي يدعي برلمان بريطانيا دعمه بلا تحفظ !.
كم عاماً سننتظر قبل أن يشكل برلمان صاحبة الجلالة لجنة تدين كاميرون أو غيره من ساسة بريطانيا بتهمة الكذب على البرلمان والشعب، والسماح بقتل السوريين، وأي أحمق أو أبله يصدق اليوم تقرير العراق، أو سيصدق غدا تقرير سوريا، مهما ذرفت اللجنة من دموع تشبه دموع التماسيح، التي تتسلى بالبكاء على ضحاياها، وهي تهضمهم؟.