بريطانيا من أكثر الديمقراطيات الحديثة عراقة بعد اليونان القديمة موطن أرسطو وأفلاطون، وصاحبة أول وأشهر وثيقة حقوقية «الماجناكارتا» في القرن الثالث عشر التي أسست للحريات المدنية..

وهي ذات التاريخ الإمبراطوري الحافل التي أخضعت العديد من الدول والشعوب لهيمنتها وسيطرتها لعقود طويلة من الزمن، فكانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، سجلت أعلى البطولات في الحرب العالمية الثانية التي هزمت نازية هتلر وأصبح ونستون تشرشل زعيمها ورئيس وزرائها آنذاك من ألمع أسماء القادة والسياسيين عبر التاريخ.

وهي فوق ذلك بلد ويليام شكسبير بتأثيره الهائل في حركة المسرح والأدب العالمي حتى يومنا هذا، تعتز بثقافتها الأنجلوسكسونية التي تفرقها عن الـلاتينية السائدة في معظم أوروبا، بريطانيا الحاضر من أقوى الدول اقتصادياً ومالياً وتجارياً وأكثرها تقدماً، يُطلق عليها «المملكة المتحدة» بعد ضمها إلى جانب إنجلترا (الدولة المحورية مقر الحكومة والبرلمان والعاصمة لندن) كلاً من أقاليم ويلز واسكتلندا وإيرلندا الشمالية، إنها نموذج خاص أو متفرد وبهذه الروح تتعامل مع ذاتها باعتبارها «قوة عظمى» يحتاج إليها الآخرون أكثر مما تحتاج إليهم.

في هذا السياق، يمكن قراءة نتائج الاستفتاء الأخير الذي جاء في صالح خروجها من الاتحاد الأوروبي (حتى وإن كان بنسبة 52%) وأثار -ومازال- جدلاً كبيراً ليس فقط داخل أقاليمها وبين نخبتها السياسية والحزبية، وإنما في أنحاء أوروبا كلها بل والعالم، لما قد يكون له من تداعيات على شكل النظام الدولي الحالي.

لا شك أن بريطانيا واحدة من أهم ثلاث دول في الاتحاد بجانب فرنسا وألمانيا التي ستصبح أكثر تأهيلاً لقيادته مستقبلاً، والاتحاد الأوروبي ليس مجرد تكتل إقليمي عادي .

ولكنه تجسيد لحلم أوروبا الموحدة الذي استغرق تكوينه ما يزيد على السبعين عاماً منذ بدأت نواته الأولى من اتحاد الفحم والصلب والجماعة الاقتصادية الأوروبية في الخمسينيات، مروراً باتفاقية ماستريخت في التسعينيات إلى معاهدة لشبونة (2007) التي أكسبته شكله الراهن، وأصبح نموذجاً مُلهماً لكثير من مناطق العالم، قبل أن تظهر معالم انقساماته الداخلية مع الخروج البريطاني..

والذي يبدو واضحاً أنه لا تراجع فيه، فعلى الرغم من أن الأسباب المعلنة لهذا الخروج هي الابتعاد عن مخاطر الهجرة غير الشرعية وأزمة اللاجئين، إلا أنها ليست الأسباب الوحيدة، فثمة قراءة أخرى لهذا الحدث تتعلق بطبيعة مثل هذه التكتلات والكيانات العملاقة بعضويتها الواسعة والأهم من ذلك بقدرتها على توحيد قرارها السياسي وليس فقط الاستفادة الاقتصادية المباشرة، لكونها سوقاً كبيراً لتبادل السلع والخدمات..

فمن الناحية الأولى قد تنظر بعض الدول الكبيرة -وفي مقدمتها بريطانيا- إلى الاتحاد الأوروبي على أنه مؤسسة بيروقراطية تعاني من الترهل بسبب الكثرة العددية للدول الداخلة فيه أو تلك المرشحة للدخول.

والتي تتفاوت في المكانة والقدرة والقوة، إذ لا يمكن مقارنة دولة مثل اليونان أو قبرص أو دول أوروبا الشرقية بتلك الدول الكبيرة بل قد تصبح عبئاً عليها من هذا المنظور، وبنظرة أخرى قد لا تتوافق الاتجاهات شبه اليسارية الغالبة على الاتحاد مع المزاج الإنجليزي المحافظ.

ولا مع الصعود الملحوظ للتيارات اليمينية الأوروبية في الوقت الجاري، أما من الناحية الثانية المرتبطة بالجوانب السياسية، فهنا يكون منطق «الدولة القومية» ومصالحها العليا هو السائد، فبخلاف كل ما يقال عن «العولمة» وانتصارها النهائي على الهويات الأصلية..

وعلى الدولة كوحدة أساسية في المجتمع الدولي لصالح التجمعات العابرة للحدود والقوميات، إلا أنها مقولة ليست صحيحة على إطلاقها ويُثبتها المثل الذي نتحدث عنه، فبريطانيا دخلت الاتحاد متأخرة وظلت محافظة على استقلاليتها، لم تعتمد «اليورو» كعملة نقدية موحدة بل ظل «الاسترليني» هو عملتها..

كما كانت قبل الانضمام، مثلما لم تقبل بالـ«شينغن» كتأشيرة أوروبية لدخول أراضيها (وربما لن تكون الحالة الوحيدة، ففرنسا مثلاً طرحت بعد تفجيرات باريس الإرهابية مراجعة تلك التأشيرة لتكون لها تأشيرتها الخاصة)، وعلاوة على ذلك كانت السياسة الخارجية البريطانية طوال الوقت -وإلى الآن- مرتبطة بقوة بمثيلاتها الأميركية بأكثر من ارتباطها بالسياسة الأوروبية (حرب الخليج الثانية، غزو العراق وأفغانستان، الحرب ضد الإرهاب).

إذاً، وإلى إشعار آخر، سنظل نتعايش مع فكرة «الدولة» بشكلها التقليدي منذ أن قننتها معاهدة «ويستفاليا» في القرن السابع عشر (1648) التي أنهت عهوداً طويلة من الحروب الدينية والنزاعات المسلحة، ووضعت أسس التعامل بين الدول الأوروبية التي تكونت منها الإمبراطورية الرومانية قديماً على أساس مبدأ «سيادة الدولة».

بل ومازالت مساهمات فلاسفة ومفكري هذا المفهوم (من توماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو إلى هيجل وماكس فيبر وغيرهم) هي الحاضرة إلى الآن بكل ما طرحته من قضايا جدلية بهذا الخصوص، هل هي ردة على أفكار ما بعد الحداثة أو خط دفاع أخير ضد العولمة؟

ربما، المهم أن هذا هو الواقع، انتصرت بريطانيا للدولة دون أن تبالي بالخسائر التي لحقت بسوقها المالي والعقاري وبقيمة عملتها النقدية، ولا بما قد يلحق بالبورصة والاقتصاد العالمي من خسائر أيضاً، إنه الانتماء الذي يبدو أزلياً إلى الدولة الوطنية.