التوترات الدينية والعنف المفتوح المحمول عليها، يمثل أحد تطورات العلاقة الملتبسة بين الدين والدولة ما بعد الاستقلال في العالم العربي والتوظيفات السياسية للنخب الحاكمة للإسلام في الصراع السياسي، وذلك كأحد مصادر شرعيتها، وأحد أدواتها في الضبط الاجتماعي في مواجهة الجماعات السياسية الليبرالية والماركسية والقومية في بعض الأحيان.

هذا النمط من السياسة الدينية تراجعت بعض أهدافه في إطار الدولة التسلطية في بعض المراحل - كالناصرية في مصر - في ظل رؤية تربط بين الإسلام والتنمية والتحول الاجتماعي واتخاذه سنداً لتسويغ السياسات الاجتماعية والتأميمات وبناء القطاع العام، وفي مواجهة الجماعات السياسية الإسلامية كجماعة الإخوان المسلمين ونظائرها، إلا أنها لم تحقق بعض أهدافها مع هزيمة يونيو 1967، وذلك لتحول الإسلام إلى الوعاء الجامع لاستيعاب آثار الهزيمة على البنية النفسية والرمزية والثقافية التي أصابتها شقوق وثقوب عدة، بعد فشل المشروع الناصري في ميادين القتال، ومن ثم أصبح أحد أبرز أدوات التماسك الاجتماعي لمواجهة الانعكاسات الخطيرة للهزيمة.

من هنا انفتح الباب عن سعة لتنامي خطاب الهوية الدينية الذي أدى إلى تمددات للديني على السياسي والاجتماعي، وصعود متنامٍ للسلطة الدينية الرسمية ورجال الدين في إطارها، وخطابهم العنيف إزاء الفكر الاشتراكي والماركسي والقومي والليبرالي وروجوا لخطاب ديني أحادي يحاول تأثيم وإقصاء واستبعاد الفكر الحديث والمعاصر، ورجم الحداثة الثقافية بالعديد من الاتهامات والتشكيك في شرعيتها الدينية، بل ووصل الأمر ببعضهم لاعتبارها تدعو للإلحاد واللا تدين.

استكانت النخبة الحاكمة إلى أن المؤسسة الدينية الرسمية خاضعة لها ولتوجيهاتها السياسية، وأنه يمكنها تغيير هذا التوجه في سياستها الدينية بعد مواجهة العدوان وتحرير الأراضي المحتلة، إلا أن ذلك لم يتحقق وإنما حدث تغير كبير حيث استخدم السادات الإسلام لإعادة صياغة الخريطة السياسية، والقوى الداعمة لنظامه من خلال المصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين - بعد أكتوبر 1974 - ودعم الدور السياسي للأزهر في إطار سياسته الدينية والإيديولوجية الجديدة في الهجوم على الناصرية، والماركسيين، وبعض الليبراليين، وفتح الباب واسعاً أمام التمدد الإخواني والسلفي، وتناسى أن استخدامات الإسلام السياسي لن تكون قصراً وحكراً على النظام وأجهزته الإيديولوجية، وأن ثمة جماعات أخرى ستزايد عليه وعلى مشروعية استخداماته.

من هنا شهد حكمه بدايات تفكك عرى الموحدات القومية الجامعة بين مكونات الأمة الواحدة، وتزايدت التوترات الدينية التي أخذت بعض الأبعاد الطائفية، بعضها انفجر كنتاج للتحريض المباشر ضد الأقباط، وبعضها الآخر ظل مستتراً ومسكوتاً عنه في الخطاب السياسي والإعلامي، كبعض من أشكال التمييز ضد الأقباط في بعض وظائف الدولة وفي مستوياتها القيادية، وفي بعض المواقع داخل أجهزة النظام والدولة. الأخطر هو تزايد معدلات العنف الديني المادي والرمزي ذو المنحى الطائفي على الصعيد الاجتماعي.

تمددت الجماعات الإسلامية السياسية، سابقا، وعلى رأسها الإخوان في ظل سياسة التمثيل والمشاركة الجزئية في النظام، والحركة السلفية واستخدامها في مواجهة الإخوان والراديكاليين، واستمرارية إسناد الملف الديني والطائفي إلى الأجهزة الأمنية المختصة، مع بعض من التساهل والتراخي في تمدد الإخوان والسلفيين على الصعيد الاجتماعي، وبناء شبكات اجتماعية وأشكال من التعاضد الديني مع إغفال بناء سياسة دينية وحزمة سياسات متنوعة للتعامل مع العلاقة الملتبسة والمركبة في علاقة الدولة بالإسلام سياسياً ومع جماعاته المعارضة أو التي يتم توظيفها سياسياً.

أدت هذه السياسة المضطربة إلى تديين المجالين العام والخاص، وسعي غالب القوي الإسلامية السياسية والسلفيين إلى أسلمة الدولة والمجال العام، من خلال أشكال من الطقوس الاستعراضية في الشارع وأماكن العبادة وفي الوظيفة العامة، والسكن، والمركبات العامة والخاصة، وهي السند الاجتماعي للقوة السياسية للإخوان والسلفيين بعد 25 يناير 2011.

أدى ذلك إلى انكسار في الأسس والموحدات الجامعة للأمة «ومواطنيها» والنظام القانوني الكلي وشرعيته الحداثية كنتاج للتشكيك في شرعية الدولة والقانون معاً، وكنتاج لسياسة تديين السياسة، والوظيفة العامة، والمجال العام المقيد، وتمددت النظرة الدينية المذهبية في أعقاب 25 يناير والمراحل الانتقالية، وصعود الإخوان والسلفيين إلى سدة السلطة، وبدا وكأن ثمة تحول إلى تديين كامل للدولة المصرية وأجهزتها، والمجال العام، وبروز خطابات قدحية إزاء الأقباط والقوى المدنية، وتزامن ذلك مع اعتداءات عليهم وعلى دور العبادة، وتحول بعض المنازعات اليومية إلى طائفية، وعدم التطبيق الحاسم للقانون على مرتكبي هذه الجرائم التي تزايدت معدلاتها على نحو غير مسبوق في تاريخ مصر منذ ثورة 1919.

وجاءت انتفاضة 30 يونيو لتشهد وقوف كل طوائف وأطياف الشعب المصري في وجه المتطرفين الراديكاليين من الإخوان وغيرهم، ولولا هذه الانتفاضة لكانت مصر الآن غارقة في بحور من الدم والفتن المدمرة.