لا أعرف لِمَ أجد نفسي مدفوعاً دائماً للكتابة عن جمال عبد الناصر وثورته (23 يوليو 1952) كلّما كانت هناك مناسبة تستدعي الحديث عنه. ما أعلمه، أنّ البعض يعتبر أنّ الكتابة عن ناصر هي مجرد حنين عاطفي لمرحلة ولّت ولن تعود، بينما يُغرق هذا البعض الأمَّة في خلافاتٍ ورواياتٍ وأحاديث عمرها أكثر من 14 قرناً، والهدف منها ليس إعادة نهضة الأمَّة العربية، بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، بحيث تكون «الدولة اليهودية» نموذجاً لدويلات دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!

نعم يا جمال عبد الناصر، فنحن نعيش الآن نتائج «الزمن الإسرائيلي» الذي جرى اعتماده بعد رحيلك المفاجئ عام 1970، ثمّ بعد الانقلاب الذي حدث على «زمن القومية العربية»، والذي كانت مصر تقوده في عقديْ الخمسينيات والستّينيات من القرن الماضي. فاليوم يشهد معظم بلاد العرب «حوادث عنف تقسيمية» و«أحاديث طائفية ومذهبية وإثنية» لتفتيت الأوطان نفسها.. لا الهويّة العربية وحدها.

هو «زمنٌ إسرائيلي» نعيشه الآن يا ناصر على مستوى العالم أيضاً. فعصر «كتلة عدم الانحياز لأحد المعسكرين الدوليين»، الذي كانت مصر رائدته، تحّول إلى عصر صراع «الشرق الإسلامي» مع «الغرب المسيحي»، بينما يستمر تهميش «الصراع العربي/الصهيوني»، وفي هاتين الحالتين، المكاسب الإسرائيلية ضخمة جداً!

رحمك الله يا جمال عبد الناصر، فقد كنت تكرّر دائماً: «غزَّة والضفَّة والقدس قبل سيناء.. والجولان قبل سيناء»، وأدركتَ أنَّ قوّة مصر هي في عروبتها، وأنَّ أمن مصر لا ينفصل عن أمن مشرق الأمَّة العربية ومغربها ووادي نيلها الممتد في العمق الأفريقي.

ألم تكن الغاية الإسرائيلية آنذاك (المدعومة من الإدارة الأميركية) بعد عدوان 1967 هي إخراج مصر من الصراع العربي/الإسرائيلي، والمقايضة مع ناصر بإعادة سيناء له مقابل عزلة مصر عن المشرق العربي والجبهات الأخرى مع إسرائيل؟

اليوم، نجد واقعاً عربياً مغايراً لما كان عليه العرب في أيامك يا ناصر.. فقد سقطت أولويّات المعركة مع إسرائيل وحلّت مكانها «المعاهدات» والمعارك العربية الداخلية. اليوم أُستبدلت «الهويّة العربية» بالهويّات الطائفية والمذهبية ولصالح الحروب والانقسامات الوطنية الداخلية.

البعض في المنطقة العربية وجد الحلَّ في العودة إلى «عصر الجاهلية» وصراعاتها القبلية، تحت أسماء وشعارات دينية، وهو يستهزئ بالحديث الآن عن حقبة «23 يوليو» التي ولّت!!. وبعضٌ عربيٌّ آخر رأى «نموذجه» في الحلّ بعودة البلاد العربية إلى مرحلة ما قبل عصرك يا ناصر، أي العقود الأولى من القرن العشرين التي تميّزت بتحكّم وهيمنة الغرب على الشرق! فهكذا هو واقع حال العرب اليوم، ما يُقارب نصف قرن من الانحدار المتواصل! نعم مصر تغيّرت، والمنطقة العربية تغيّرت، والعالم بأسره شهد ويشهد متغيّراتٍ جذرية في عموم المجالات.. لكن ما لم يتغيّر هو طبيعة التحدّيات المستمرّة على العرب منذ مائة سنة، هي عمر التوأمة والتزامن بين وعد بلفور وبين تفتيت المنطقة وتقسيمها لصالح القوى الكبرى.

ولو جاز لي يا عبد الناصر أن أستخلص من أحاديثك وخطبك ومن «ميثاقك الوطني» ما العرب بحاجة إليه الآن من ترشيدٍ فكري وسياسي، لوضعت العناصر التالية المستوحاة من وثائقك:

* رفض العنف الدموي كوسيلةٍ للتغيير الاجتماعي والسياسي في الوطن أو لأي عمل وحدوي أو قومي.

* المواطنة الحرّة لا تتحقّق في بلدٍ مستعبَد أو محتَل أو مسيطَر عليه من الخارج. كذلك، فإنّ التحرّر من الاحتلال لا يكفي دون ضمانات الحرّية للمواطن، وهي تكون على وجهين؛ الوجه السياسي: الذي يتطلّب بناء مجتمعٍ ديمقراطي مدني سليم تتحقّق فيه المشاركة الشعبية في الحكم، وتتوفّر فيه حرّية الفكر والمعتقد والتعبير، وتسود فيه الرقابة الشعبية وسلطة القضاء. أمّا الوجه الاجتماعي: فيتطلّب بناء عدالةٍ اجتماعيةٍ تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني والعدالة في توزيع الثروات الوطنية وتوفير فرص العمل والعلم لجميع المواطنين.

* المساواة بين جميع المواطنين، والعمل لتعزيز الوحدة الوطنية الشعبية التي من دونها ينهار المجتمع ولا تتحقّق الحرّية السياسية أو العدالة الاجتماعية أو التحرّر من الهيمنة الخارجية.

* اعتماد سياسة عدم الانحياز لأيٍّ من القوى الكبرى ورفض الارتباط بأحلافٍ عسكرية أو سياسية تقيّد الوطن ولا تحميه، تنزع إرادته الوطنية المستقلّة ولا تحقّق أمنه الوطني.

* مفهوم الانتماء المتعدّد للوطن ضمن الهويّة الواحدة له. فمصر مثلاً تنتمي إلى دوائرَ أفريقية وآسيوية وإسلامية ومتوسطيّة، لكن مصر - مثلها مثل أيّ بلدٍ عربيٍّ آخر- ذات هويّة عربية وتشترك في الانتماء مع سائر البلاد العربية الأخرى إلى أمّةٍ عربيةٍ ذات ثقافةٍ واحدة ومضمونٍ حضاريٍّ مشترَك.

* إنّ الطريق إلى التكامل العربي أو الاتحاد بين البلدان العربية لا يتحقّق من خلال الفرض أو القوّة بل (كما قال ناصر): «إنّ اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعبي ليس مجرّد تمسّك بأسلوبٍ مثالي في العمل الوطني، وإنّما هو فوق ذلك، ومعه، ضرورة لازمة للحفاظ على الوحدة الوطنية للشعوب العربية».

هذه باختصار مجموعة خلاصات أراها في وثائق ثورة 23 يوليو، خاصّةً في حقبة نضوجها بعد حرب عام 1967. لكن أين المنطقة العربية الآن من ذلك كلّه!؟