حين يكون خصمك مجنوناً لا تفيدك شجاعتك، عليك أن تستنفر عقلك وتتدبر أمرك. أما حين يكون خصمك الذي لا أنت خصمه ولا عدوه بل هو الذي يرى أنك وكل العالم أعداءه، داعشياً إرهابياً مغسول الدماغ ممسوخ التفكير مقدم عليك وعلى أناس انتهوا للتو من احتفال وطني بشاحنة موت فعليك أن تهرب من أمامه إلى أي مكان لا تصله عجلات الشاحنة.
ما حدث في مدينة نيس ذاك اليوم الأحمر بلون الدم البريء الذي أريق جريمة وحشية بكل ما في الوحشية من قذارة، وعمل مناف لكل الشرائع السماوية وخاصة الإسلام الذي نهى حتى عن قطع شجرة.
فكيف بقطع أعناق بشر كما تفعل داعش وما تطوره من أساليب قتل وصلت حد عجن أجساد أطفال ونساء بأسفلت الشوارع والساحات. فقد كان المشهد بشعاً والحادث مروعاً.. طفلة في بركة دم بجانبها لعبتها، امرأة فقدت نصف جسدها، رجل بلا ساقين وأجساد مغطاة بشراشف بيضاء يعلم الله ما تحتها وما حلّ بها.
حتى اليوم لا تزال تتكشف تفاصيل مروعة لنكبة نيس، مدينة الجمال والشمس ومنها أن أسرة كانت قد فقدت رضيعها ابن الـ 8 أشهر بعد الهجوم الإرهابي تمكنت من العثور عليه، وذلك بفضل نداء أطلق على فيس بوك وتم تداوله من قبل آلاف الأشخاص حيث كانت صفحات الإنترنت ضجت بالخبر: «طفل صغير في الزحام وهو موضوع في عربة زرقاء، يرجى تداول الخبر»، مرفقاً بصورة له.
إلى أين تذهب داعش بالإسلام وبالعالم؟ وأي إسلام هذا الذي تدعي تمثيلها له ؟
المفكر الفرنسي «ارليفيه روا» كان محقاً بقوله: إن داعش لا يعبر في الحقيقة عن التطرف الإسلامي، بقدر ما يعبر عن محاولاته المتكررة عن «أسلمة التطرف». أي رغبة داعش في تحدي الظروف السائدة، بأدوات عنف، مستخدما الأيديولوجيا الإسلامية، نظرا لجاذبيتها البالغة في محيطها.
وهذا يعيدنا إلى لغز من أوجد داعش ولأي هدف، ودور داعش في تدمير العراق وسوريا! واستهدافها كافة الدول العربية واستثناءها «إسرائيل» التي تحتل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وحرف البوصلة عن العدو الأساسي للأمتين العربية والإسلامية !!
يبدو أن داعش انتهى دورها أو أنها بدأت تتقهقر أمام الرفض العربي والإسلامي والدولي لوحشيتها. تماما كما انتهى دور «القاعدة» بمقتل أسامة بن لادن. فهي تخسر كل يوم قطعة من الأرض، قد تساوي مدينة او قرية أو عدة قرى. وخسارتها ليست في العراق وسوريا فحسب، بل أينما وجدت، سواء في ليبيا أو في اليمن أو في مناطق انتشارها في الدول الإسلامية والعربية.
وتتعدد أسباب خسارتها، بين الحصار الذي تعاني منه، وهشاشة مؤسساتها، وافتقادها إلى الخبرة الإدارية العصرية، إضافة إلى فقدانها للحاضنة الاجتماعية، ورفض وجودها وممارساتها واستعداءها الجميع.
التنظيم يخوض آخر معاركه وحروبه على ضفاف الموصل والرقة ومنبج وسرت. وما يجري اليوم من تصعيد ضد أهداف «رخوة» ضد العدو القريب والبعيد كحادثة نيس، يندرج في سياق إطلاق آخر السهام قبل الموت. إنهم يعوضون خساراتهم المتلاحقة للأرض والقيادات والكوادر والمقاتلين الذين يتساقطون يومياً بالعشرات، بعمليات استعراضية، قاسية ومؤلمة ودامية تستهدف المارة والمدنيين الأبرياء والرجال والنساء العزل.
وربما لهذا السبب بالذات، بدأوا منذ حين يتحدثون عن «إحدى الحسنيين»، بعد أن طغى على أحاديثهم قبل عامين أو ثلاثة أعوام، شعور النصر وأحاسيسه.
«داعش» يطوي صفحة دولته، بيد أن الأخطار المترتبة على ذيوله، ستبقى حاضرة، ربما لعدة سنوات مقبلة، فثمة أعداد كبيرة من الخلايا النائمة «والذئاب المتوحدة»، التي سيظل بمقدورها أن تلحق الأذى والضرر، وأن تمس أمن واستقرار دول ومجتمعات، قريبة وبعيدة...
لكن الأمر المؤكد أن زوال «دولة البغدادي»، وسقوط «النموذج» الذي اجتذب ألوف «المجاهدين» و«المجاهدات» من شأنه أن يوهن عزيمة هؤلاء ويضعف رغبتهم في البحث عن الموت «من أجل الحور العين». وقد حفلت مواقع إخبارية بمشاهد إعدام داعش لعدد من عناصرها بتهمة «خيانة التنظيم».
لكن ثمة من يرى أن استراتيجية داعش أو من يخططون لها قد تتحول من الدفاع عن خلافة فوق الأرض، إلى محاولة الحفاظ على خلافة تحت الأرض، تواصل من خلالها هجماتها الوحشية، في الوقت الذي سيصعب رؤيتها او الإمساك بها، رغم الإحساس بها وبأفعالها الإجرامية التي لن تتوقف عبر العالم.
ولعل العمليات التي قامت بها مؤخرا في الكرادة والسعودية ونيس الفرنسية، تعطي صورة عن ما يمكن أن يقوم به هذا التنظيم، إما بدافع رفع معنويات كوادره في هذا الظرف الذي يخسر فيه الأرض، وإما على شكل تمرينات بالذخيرة الحية، لما يمكن أن يقوم به في المستقبل.