ثمة مفارقة مدهشة طالما كشفت عنها وقائع الإرهاب الوحشي، خصوصاً الحوادث التي نالت من أرواح أعداد كبيرة من البشر، مثل أحداث باريس وبيروت، وغيرها من الأحداث التي وقعت في مدن أوروبا مؤخراً، جوهر المفارقة أن تنظيم داعش وما يقاربه من التنظيمات السلفية الجهادية التي تمارس عنفها المفرط لإقامة الدولة، أي بهدف رفض النظريات السياسية البشرية المعتدلة بحجة أنها ليست من عند الله، هي نفسها التي تتورط في ممارسة المستوي الأعلى من إنكار شريعة الله وأحكام الديانات السماوية، ففي طريقها إلى مناوئة نظم الحكم القائمة، باعتبارها مجرد أشكال لطاغوت يسعى إلى تعطيل الشريعة، تستحل تلك الحركات جميع القيم الأخلاقية التي تصوغ (الروحانية الإسلامية)، التي تحث المؤمن على محبة الآخرين والبر بهم.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنهم يتجاوزون أحكام الشريعة نفسها التي يدعون إلى تطبيقها، ليس فقط عبر الإرهاب الذي يقتل أبرياء تنهي جل الأديان عن إراقة دمائهم، حتى أن الإسلام يعتبر من قتل نفساً واحدة بمثابة قتل للناس جميعاً، بل وأيضا باستحلال حرمة المال لغير المنضوين تحت لوائهم، بحجة أنه حرام.

وكذلك حرمة العرض بالتساهل تحت لافتات واهية، تسمح بالزواج السريع والطلاق الأسرع، أو حتى بإعادة تدوير النساء بين أعضائها ضمن ما يسمونه جهاد النكاح، كنوع من الزنا الصريح، أي من الكبائر التي تمارسها تلك الجماعات لجذب الأتباع، وتجنيد المنافقين، وحتى أساليبهم في القتل تعكس روحاً شريرة شيطانية، خاصة عرضهم لمشاهد ذبح البشر وقطع الرقاب والحرق والدفن والرجم حياً، وكلها مشاهد تعكس عقولاً مريضة وقلوباً خاوية تماماً من أي مبادئ وقيم سماوية أو بشرية.

وهكذا تقود المعركة العبثية ضد النظريات السياسية، الضرورية لحسن تنظيم المجتمعات، والتي جاءت نتيجة تطور الحياة البشرية وتزايد أعداد البشر وتكون مجتمعات جديدة مدنية كبيرة تحتاج لأنظمة حديثة في إدارتها، ولا تخالف أحكام الدين والشريعة السمحاء الصالحة لكل زمان ومكان، وإقامة الحكم المعتدل الذي لا ينال قيد أنملة من الرؤية الروحية للوجود، ولا من المرجعية القيمية الإسلامية، إلى استحضار المستوى الأخطر منها، الذي يتصادم حقاً مع هذه الرؤية، ويهدر تلك المرجعية ليس فقط التي يجسدها الدين، بل ويلهمها الحس الإنساني المشترك، الذي تتكاتف في صوغه الأديان الصحيحة والفلسفات المثالية، والخبرات التاريخية للحضارات الكبرى والمجتمعات المتمدينة.

هذه الجماعات المتطرفة وأتباعها، والبعض ممن تستهويه شعاراتهم، يتمسك كذباً وزوراً بشعار «الإسلام هو الحل» من أجل تحقيق أهداف سياسية ودنيوية بحتة، بحجة رفض أي نظام سياسي حديث له تجارب تاريخية، طالما لا يرفع شعار الدين، ومن المعروف أن هذه الأنظمة السياسية من جمهورية ورئاسية وملكية وفيدرالية واشتراكية ورأسمالية وغيرها شهدت تطوراً تاريخياً مر بالعالم، حيث نمت بشكلها الحديث في ظل حركة الإصلاح الديني الأوروبي، واستقرت بسطوع فلسفة التنوير، ونضوج تجربة الحداثة، مثلما ترسخ واقعياً بفعل الثورة الفرنسية.

ولأن التنوير لم يكن صيغة واحدة بل صيغ عدة روحية ومادية. ولأن الحداثة لم تنضج فجأة في لحظة بذاتها بل تجسد صيرورة تاريخية ممتدة، فإن أشكال الأنظمة السياسية المتولدة عنهما قد تباينت على مر القرون، وتجسد هذه الأنظمة المثل السياسية للحداثة، النازعة إلى تكريس الحرية الفردية والديمقراطية السياسية عبر القرون الأربعة الأخيرة.

حسب هذا الفهم يمكن الإدعاء بأن الأديان السماوية ترفض فقط العلمانية الوجودية التي تتعرض لقضية الخلق والألوهية، لكنها لا تنكر العلمانية السياسية التي كشفت عنها تجارب المسلمين عبر التاريخ، وهي ليست بالطبع تلك العلمانية الحديثة الموشاة بالليبرالية والديمقراطية، بل هي نظام للتعامل والتأقلم مع تطور المجتمعات البشرية.

وعلى هذا فإن قبول الإسلام للديمقراطية المعاصرة كفن حديث لإدارة المجتمعات الإنسانية لا يبدو فقط أمراً ممكناً بل يمكن اعتباره مطلباً دينياً أيضاً، فكل فكرة تُمكن الإنسان من ممارسة أكثر إبداعية لعهد استخلافه على الأرض، هي فكرة إسلامية بالضرورة، أما التخلف عن تلك الأفكار المبدعة، ومن ثم عن حركة التقدم التاريخي، فيؤدي إلى تحلل هذا العهد وفساده، ولهذا فإن تطور الوعي الإسلامي في التعامل مع النظريات السياسية الحديثة يمثل ضرورة للتقدم والحرية، وسوف ينقذنا من السقوط في وحل التطرف الذي يختطف صورة الإسلام ويهدم روحانيته.