في اللحظة الأخيرة قبل تنفيذ حكم إعدامه اختار القاتل أسلوب موته، فإما المقصلة أو الرصاص أو السيف أو حتى بالغاز أو الكهرباء، سيموت بعد دقائق ويختار أفضل طريقة من سلة الموت.
استعد القاتل لموته المعلن والمحدد سابقاً، واستعد الجميع، أهل القتيل الضحية المطالِبُون بالقصَاص وأهل »الضحّية« القاتل الذي سيُعْدَم الآن عقابا على تجرئه بالعبث في حياة الآخرين وموتهم أيضا. تهيّأ »العشماوي« أو »قيصر الموت« الجَهْم الضخم مُنَفَّذ الحكم، واطمأن أن أدواته في »سلة فاكهته« جميعها صالحة لتنفيذ الموت في موعده، خمس دقائق فقط حتى يُدَقُّ رأس الساعة فتُدَقّ العُنُق.
وما أسهل الموت حينما تستدنيه بموعد وتحاصره في مكان محدد وتهيئ له طقوسه وتخضعه لشروطك، فالموت هنا يُساق إلى حتفه مكبلاً تابعا للقاتل الذي يساق أيضاً إلى حتفه الموعود. ففي الرحيل الأبدي المرتب تختفي عن الموت مهابته وتذهب عنه سلطته المباغتة، فلا هو الموت التقليدي بغموضه ولا هو تلك اللحظة المجنونة بين قاتل وقتيل ومفترس متربص وفريسة آمنة هائمة تتقفى نبعها. الموت العادي حاضر ومكثف وعبثي ومباغت كزلزال والناس نيام.
أما الموت المشهر المعدّ له سلَفا، قضاءً وحكماً وقصاصاً، على مصطبة المقصلة أو جدار النهاية أو بحد السيف، فهو ضَعيف وهزيل تماماً. فليس هو المخادع القاسي الذي يأخذ قلب توأم طفلين تسرّب إليهما غاز من الشقة المجاورة أو نسيانهما في سيارة ظهيرة يوم قائظ.
وأما الموت الذي نعرفه ونجهله أيضا أشد وأقسى حينما يُغيّب ودون سابق إنذار حيّاً قد تجاوز فرحه المعقول في الشعور، فالميت هنا كسنبلة طرحت بذرها الأخضر قبل موعدها، فلا اختزنت سر الحياة ولا عاشت كما ينبغي، وماتت قبل أن تكتمل نشوتها.
الموت ليس هو الموت، هو العائم فوق رؤوسنا روتيني يتكرر ويدهشنا في كل مرة يختلس أحدنا، وأما الموت الآخر المعلن ضعيف سجين في قاتله بانتظار أن يتحرر بيد »قيصر الموت«، هو معلنٌ يشتم فيه الميّت دمه قبل أن ينهمر، هو غيمة واضحة تلبّدت وهبطت وحان قطاف غيثها فاستعدت لها ربات البيوت فأدخلن غسيل الحياة وطوينه رطباً.
طوينه كما تُطوي أيامنا غير المكتملة رحيلاً فرحيلا. إنه لحظة تنفيذ الموت على قاتل يتلمس دمه المتخثر كحلوى هلامية. فالموت هنا ليس واحداً وإن تعددت الأسباب.
فهنا تحت المقصلة موتٌ مكبّل بصاحبه تحدد له ممراته وأبوابه ودقيقة انبعاثه، وأما الآخر الشائع بيننا سهل وعادي وشرس وغامض يحيا طليقا يختار من يختار دون حكم أو نقض أو استئناف، ولا محكمة له ولا معاقب أو عواقب.
وكم سخر الموت الحر الطليق فوق رؤوسنا من تنبؤات عرافين وحتى توقعات الأطباء فيختار توقيته الذي يحب مبكرا أو متأخرا، المهم أنه مالك سلطته وقسوة عبثيته ليقطف ضحاياه من بستان الحياة دون موعد أو قرع باب، وأن لا يكون حبيس سلاسل القاتل »الضحيّة«.
يُسَاقُ المحكوم عليه بالإعدام ويتفقد أنفاسه وخطواته إلى ساعة الصفر، ويرافقه الموت بكل خنوع، فهذه المرة لن يتسلل من ثقب الباب أو في نعاس سائق متهور أو لسعة أفعى قاتلة في فناء المنزل، أو سقوط طائرة تمت صيانتها قبل الصعود وما أصابها خلل قط في تاريخها. هكذا إذا، يحيا الموت شرساً إذ نموت دون موعد مسبق. ويموت الموت إن أعلن عنه على عتبة الرحيل أيا كانت طريقة الإعدام وأيا كان »القاتل الضحية« بريئا أم مجرما.
ومن يتحكم في اكتئابه ووسواسه القَهْري فإنه حتما يقهر الموت الخفي باستمراره في نعيم الحياة، ومن يستعجل الرحيل فينتحر في ساعة ما يختارها على جسر أو قمة جبل أو مبنى أو غيره، فإنه مقهور الحياة، ولكن المفارقة هنا أنه أيضاً قاهر الموت التقليدي إذ قرر طريقة وتوقيت رحيله. وأقسى ما في الأمر إذا تعادل الموت والحياة عند لحظة الحسم وضاع الخلاص بين البقاء والرحيل.
إن العبور الضيّق في ممر اللحظة اللامعة بين الحياة والموت وانتصار الموت، كان دائما هاجس الكثيرين من الجماعات الإثنية والمذهبية والعقائدية والعرقية بين شعوب الأرض. فهو الغامض الواضح، الغامض بفجائيته وما يخفي بعده من تكهنات وتصورات لضحاياه الموتى.
وهو الواضح في حقيقته واختفاء من يموتون أمامنا وغيابهم القسري إما دفنا وتحلّلا أو حرقا ورمادا فنثرا على قمم الجبال أو في الأنهار المقدسة أو حتى في الأيقونات المعلقة في صدور المنازل، أو عبوات مزركشة معلّقة على صدور من نسيهم الموت من المحبين المكلومين.
في الساعة الخامسة إلى عشر دقائق فجرا، سأل »العشماوي« سيد الموت، المحكوم عليه بالإعدام: ماذا تشتهي؟ قال: فنجان قهوة مرة ساخنة، وأن ينفذ حكم الإعدام في الساعة الخامسة إلا دقيقة فالموت تافه وضعيف، وأنا أريده باكراً قليلا كما أشاء، فكان له ما طلب وما شاء.