يمكن تفهم الضرورات والدوافع التي تحدو بوزارة الأوقاف في مصر نحو تجربة »الخطبة الموحدة« وتعميمها في المساجد والزوايا والمصليات، التي يؤدي فيها المصلون صلاة الجمعة في ربوع البلاد، فهي لا تخرج عن تأمين المجتمع ضد نزعات التطرف وخطر التحريض على الفتنة الطائفية بين أبناء الوطن الواحد، وتجفيف المنابع والحاضنة التي تغذي نزعات التطرف والإرهاب وتنسب إلى الدين الحنيف ما ليس فيه، وتتنكر لقيمه الكونية في المساواة والعدل والحرية.

ورغم نبل هذه الأهداف وسموها وحاجة المجتمع المصري لها قبل وبعد الثلاثين من يونيو، بل وحاجة المجتمعات العربية كافة لمثل هذه الأهداف، فإن الأمور تحتاج إلى جانب توحيد خطبة الجمعة، برامج لإعداد الدعاة والخطباء نظراً لاختلاف طبيعة المشكلات التي يفترض أن يتعرض لها خطباء المساجد في مجتمع كبير مثل مصر يقترب من المائة مليون نسمة، مع اختلاف المجتمعات المحلية وظروفها، والتي تتعدد وتتنوع سواء كانت حضرية أو ريفية أو مدنية أو تقليدية أو بدوية.

نموذج الخطبة الموحدة وضع لأنه من المعروف أن الخطابة في المساجد هي أحد السبل والوسائل للتحريض والتطرف والفتنة، هذا إلى جانب سبل وقنوات أخرى تغذي التطرف والإرهاب في المجتمع اقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة الجذور في مجتمعاتنا العربية مثل الفقر والبطالة وسوء توزيع الموارد ونظم التعليم، والخطابة بالتأكيد إذا ما ساءت نوايا الخطباء وأهدافهم، تستثمر حصاد ذلك كله.

ومن ثم فإن إصلاح الخطابة والخطباء واجب وضرورة ضمن إصلاح مجتمعي شامل، فالخطبة والخطابة جزء لا يتجزأ من الخطاب العام في المجتمع التعليمي والثقافي والسياسي، وهو الخطاب الذي يحتاج إلي تجديد وتطوير يتلازم مع الخطاب الديني العام في المساجد أو غيرها من المؤسسات الدينية المختلفة.

الخبرة تشير في مجتمعاتنا العربية السابقة إلى الارتباط بين السلطة والفقهاء، وحاجة السلطة إلى الفقهاء الذين يبررون تصرفاتها، ويمنحونها صك الشرعية والتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية والدين.

ورغم أن هذا الارتباط كان مفهوماً ومبرراً وضرورياً بحكم طبيعة ذلك العصر والمرجعية المركزية التي شغلها الدين في شؤون الدنيا والحكم، إلا أنه أفضى في العديد من الحالات إلى العديد من المحن التي لحقت بالعلماء والفقهاء والمفكرين، بسبب انقساممهم إلي مؤيدين للسلطة ومعارضين لها ولعب المؤيدون دوراً مهماً في التنكيل بالمعارضين، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بالفتوى والرأي تارة والصمت والسكوت تارة أخرى. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك في تاريخ الحضارة الإسلامية اعتماد الخليفة المأمون ذلك السياسي المثقف ذو النزعة الأرسطية..

- ومن بعده الواثق والمعتصم لفكر واتجاه معين، ومحاولة فرضه على باقي الفرق والاتجاهات ومحدثيها وفقهائها، وعندما تولى المتوكل من بعدهم الخلافة عهد إلى تبني العكس، ووقع الانتقام والثأر من المخالفين، سواء كان ذلك بتحريض العلماء والفقهاء أو صمتهم عن التنكيل بأصحاب الفكر المخالف.

بالتأكيد نحن في عصر مختلف أشد الاختلاف، توفرت فيه مرجعيات للحكم مدنية وسياسية وديمقراطية تعفينا من تكرار تجربة السلف الصالح التي وقعت في التاريخ البعيد، وهذه المرجعية الجديدة لو اعتمدناها بإخلاص واجتهاد فإنها قد تسهل وتنظم الارتباط بين الدين والدولة على النحو الذي يتلاءم مع خصوصية المجتمعات الإسلامية.

فالدولة المدنية تحمي المعتقد الديني وتؤمن لأصحابه ومريديه إقامة الشعائر والصلوات، بل تؤمن الاجتهاد والابتكار في الحدود التي لا تتعارض مع قواعد الشريعة الإسلامية وقيم المجتمع والسلم الأهلي والمساواة بين أبناء الوطن والواحد وتجريم الفتنة والتحريض عليها ومناهضة الإرهاب والتطرف.

لا بد من تطوير فهم الدين وتجديد الخطاب الديني دون إكراه، ومن خلال الاقتناع بالحوار والمناقشة والتعمق في فهم حاجات الدنيا في ذلك العصر المتغير ومواكبة التغير العالمي العلمي والتقني والثقافي، حتى لا تكون الخُطبة خَطباً يضاف إلى ما لدينا.

ولا شك في أن الهدف الأكبر الذي تسعى إليه الدولة والمجتمع هو حظر استخدام الدين في السياسة والإرهاب، من قبل الجماعات المتطرفة المختلفة، ولن يستقيم تحقيق هذا الهدف إلا بالتوافق على القيم والأهداف العامة للمجتمع والدولة في تحقيق الاستقرار والتنمية والرخاء والوحدة الوطنية ومقاومة الإرهاب.