حالة التعايش الديني والاجتماعي والثقافي في الدول والمجتمعات العربية، انتقلت من مرحلة الاحتقانات والتوترات المستمرة، إلى الأزمات المتراكمة، حتى وصلنا إلى مرحلة المسألة الدينية الأكثر تعقيداً وتركيباً، والتي يتداخل فيها الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي والرمزي، من خلال نزعة الإقصاء والنبذ.
والسعي المحموم لدى بعض الجماعات السياسية إلى فرض الهيمنة الرمزية والعقدية على المجتمعات والدول قبل مرحلة الانتفاضات الجماهيرية العربية في مصر وتونس، وفشلها في سوريا واليمن وليبيا، والاضطرابات المستمرة في العراق، لا سيما في ظل عديد من التغيرات.
على رأس هذه التغيرات، انهيار الدولة في بعض مناطق الإقليم العربي في اليمن وليبيا، والحروب الأهلية في كلا الدولتين، وسوريا والعراق، على نحو أدى إلى تفكك مجتمعي بين المكونات الأساسية في هذه المجتمعات، على أساس ديني ومذهبي، ووقوع بعض الأقليات الدينية المسيحية والمذهبية، أسيرة سياسات إقصائية، وعمليات تهجير قسري من مناطقها.
إضافة إلى تزايد معدلات هجرة المسيحيين العرب إلى بعض البلدان الغربية والولايات المتحدة على نحو خطير، والتي بدأت منذ عقود في القدس والضفة الغربية، لأهداف سياسية ترمي إلى تهويد المدينة المقدسة، وفرض الأهداف والمصالح الإسرائيلية على أي عملية تسوية سياسية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
وفشلت كل دعاوى بعض المثقفين والسياسيين العرب والفلسطينيين، بضرورة المشاركة الفعالة في دعم استقرار المسيحيين الفلسطينيين واستمراريتهم ومساعدتهم في البقاء في أراضيهم وممتلكاتهم وأعمالهم في القدس المحتلة. وساعدت بعض الممارسات وسلوكيات »التطرف الديني« من بعض الإسلاميين السياسيين، ومقولاتهم وخطابهم الإقصائي إزاء المسيحيين، في دفع بعضهم للهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا.
أدت بعض الاضطرابات والفوضى في العراق بعد الاحتلال الأميركي، وسياسة بريمر الحاكم الأميركي لعراق ما بعد صدام حسين، إلى اعتداءات طائفية دامية على المسيحيين العراقيين وكنائسهم وممتلكاتهم، ما أدى إلى هجرتهم القسرية إلى لبنان والأردن، وأوروبا والولايات المتحدة وكندا، في دراما طائفية دامية، ومعهم الأزيديون، وهم طائفة دينية عراقية، تشكل جزءاً عريقاً وتاريخياً في تكوين العراق، كما أدت الحرب الأهلية في سوريا.
وتمدد جماعتي داعش والنصرة وغيرها من المنظمات المسلحة والمدعومة إقليمياً ودولياً، إلى استهداف المسيحيين السوريين، وهجرتهم إلى بعض دول الإقليم في لبنان والأردن، وإلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، على نحو شكل ظاهرة خطيرة، تتمثل في أن الاضطرابات الدامية.
وفشل سياسات التكامل الوطني واستراتيجية بوتقة الصهر في بناء موحدات وطنية في هذه البلدان، تكون قادرة على بناء الوحدة في إطار التنوع الديني والمذهبي والعرقي والطائفي والقومي، وازدادت المخاطر في ظل إقليم مضطرب ومخترق بواسطة دول الجوار الجغرافي العربي، وسياسات الولايات المتحدة ودول المجموعة الأوروبية وروسيا، لا سيما في سوريا.
ثمة تزايد وتراكم وانفجار للمخاوف الجماعية للمسيحيين العرب، والأقليات الدينية الأخرى، على نحو كاشف عن مخاطر هيمنة بعض الأفكار الأيديولوجية والمذهبية والجماعات الراديكالية الحاملة لهذه الأفكار، وعلى رأسها، فقه التوحش وسياسته الدامية على أوضاع الأقليات، ومن ثم، على التعايش الديني والاجتماعي داخل هذه المجتمعات، على نحو يسهم بفعالية في تمدد التطرف الديني والمذهبي، ليصوغ شكل الإقليم ودوله ومجتمعاته الانقسامية.
إن هجرة المسيحيين العرب الطوعية والقسرية في الإقليم أو الخارج أو داخل سوريا والعراق، يحمل مخاطر جمة على روح وثقافة هذه المجتمعات، لا سيما في ظل الاضطراب الإقليمي والحروب الأهلية، وعمليات القتل الوحشي، والتي يستهدف خلالها المسيحيين والأزيديين وغيرهم من المكونات الأساسية في هذه المجتمعات الانقسامية، التي فشلت فيها سياسة الاندماج القسري عبر استراتيجية بوتقة الصهر.
في ظل فضاءات الفوضى والدم والقتل وحرق وهدم أماكن العبادة، والممتلكات، يبدو الخوف جاثماً في قلب الحياة اليومية للمسيحيين والأقليات في مجتمعات عربية تسعى بعض المنظمات الإسلامية السياسية الراديكالية إلى استئصال واستبعاد بعض المكونات الأساسية في هذه المجتمعات منذ ما قبل الإسلام، واستمرت حياتها في ظله، بعد تحول غالبية السكان فيها إلى الإسلام.
والأخطر أنها جماعات تحمل عداء ورفضاً للتعدد الديني، ومن ثم الثقافي، لصالح مفهوم مغلق وديني وعرقي ولا تاريخي ولا علمي للهوية، ذي طابع سكوني ومغلق، وإقصائي لمكونات الهوية المتعددة الروافد والمكونات والثقافات، وذلك ما يؤدي إلى إفقار الهوية، ونزع الصفة الوطنية والحداثية عنها، لصالح هوية أحادية البُعد، وتعتمد على مفهوم الثوابت الديني الوضعي..
وعلى عكس النص الديني المقدس، الذي يعترف بغير المسلمين، ويؤكد على الحرية الدينية، والتي دافع عنها وأصّلَ لها بعض من أكابر الفقهاء البارزين، إلا أن الوضع الراهن للمسيحيين العرب والأقليات الدينية الأخرى، تعاني معاناة شديدة من انتهاكات لهذه الحرية الدينية، بل ومن أخطار محدقة على وجودهم التاريخي والاجتماعي والثقافي في العالم العربي.