في وعي وتصريحات الرئيس الروسي بوتين الكثير من الشوق إلى الاتحاد السوفييتي، ومن الرغبة في استرجاع مكانته الدولية كند لأميركا وقوة عظمى لها انتشار ايديولوجي / عسكري عالمي، يغطي حضورها المباشر ونفوذها الكرة الأرضية، ومعسكراً من الدول التابعة.
بما أن روسيا بوتين لا تمتلك أيديولوجية الاتحاد السوفييتي واقتصاده وانتشاره الاستراتيجي والسياسي الكوني، وتمتلك بالمقابل قوة عسكرية كافية للسيطرة على مناطق داخل مجالها الإقليمي القريب منها، فقد شرعت تستخدم بعضها من أجل تأسيس نطاق خارجي واسع مرتبط بها، بقرار اعتمدته بعد إخراجها صفر اليدين من ليبيا، يرى أن القوة الناعمة ليست كافية لضمان سيطرتها على بلدان أخرى، ولا تقاس بما لدى بلدان الغرب منها، إلى جانب قواه الخشنة المنتشرة في كل مكان، والتي تفتقر روسيا إلى ما يعادلها، ويمكنها من احتواء تفوقها وقدرتها على الشروع الفوري بالأعمال التي تريد القيام بها.
لهذا كله، يبدو أن الكرملين قرر استخدام قواه الخشنة، لتنفيذ سياساته في مناطق الصراع القريبة من روسيا، وتحديداً منها قواه القادرة على التدخل السريع، وعلى ممارسة درجة عالية من العنف أثناء تنفيذ ما يوكل إليها من مهام، مثلما تفعل في سوريا، بدءاً من المناطق الأقرب فالأبعد، أسوة بما سبق للسوفييت أن طبقوه في المجال غير الأوروبي، وخاصة مناطقه غير المحمية غربياً أو المعادية للغرب، التي لا يمثل العمل فيها بالضرورة تحدياً يستفزه ويجبره على الرد.
وبالفعل، بدأت روسيا مشروعها بدخول سوريا عسكرياً، ثم حاولت الانطلاق منها إلى بقية بلدان المنطقة، بالتعاون مع دول وقوى تابعة لها تصارع الغرب، وتتعامل مع شعوبها وكأنها معادية لها ومنحازة إلى أميركا.
من المعروف أن الاتحاد السوفييتي كسر عامي 1954 / 1955 طوق عزلته الدولية عبر اختراق المنطقة العربية من البوابة سوريا، وبعدها بقليل من البوابة المصرية - الناصرية، التي بدأت علاقاتها بها من المجال العسكري، فهل تستعيد روسيا اليوم التجربة السوفييتية، ولكن من البوابة الإيرانية وتشابكاتها الإقليمية والمحلية؟.
وهل تستخدم صراع إيران مع أميركا ونزاعاتها المحلية لتحقيق مقاصد استراتيجية تغطي القضايا المختلف عليها بين طهران وواشنطن، إن نجحت موسكو في استغلالها اخترقت محورا متنوع البلدان يمتد من مزار الشريف في أفغانستان إلى جنوب لبنان مروراً بالعراق إلى جانب سوريا، وربما نجحت أيضاً في إقامة علاقات مميزة مع الأردن بمعونة إسرائيل، بعد أن تصالحت مع تركيا: المعنية بالدعم الروسي في صراعها ضد الإرهاب عامة ومخاطر قيام كيان كردي في سوريا من شأنه آن يصعد ضغوط المسألة الكردية داخل مجالها الوطني.
ماذا سيحدث إذا كان هذا السيناريو واقعياً وكتب له النجاح ؟. سيفاقم الحضور الروسي الصراع المستعر في عموم المنطقة، وسيمد روسيا بأدوات وقدرات محلية سيبدل استخدامها بنجاح بنية المنطقة وعلاقاتها بالعالم.
قال بسمارك ذات يوم: السياسة هي فن الممكن، والممكن، كما هو معلوم، احتمالات يتحقق منها ما ترجحه تطورات الواقع على سواه، فهل ترجح مفردات التحول التاريخي، الذي تمر منطقتنا الاحتمال الذي يتحدث عنه هذا النص؟.
وهل يؤيده ما تفرع عن الصراع على سوريا وفيها من تشابكات محلية وإقليمية ودولية، تنحو في معظمها إلى تأسيس واقع جديد في بلدان المشرق والمنطقة العربية، كما في الدول الإقليمية المجاورة لها، يختلف عن واقعها الراهن، ويجعل توطن موسكو فيها احتمالاً قوياً ضعيفاً وقابلاً للتحقيق، في ظل سلبية أميركا، والخطة التي ينفذها الجيش الروسي بعنف لا مثيل له في جميع الحروب التي عرفناها، ويبدو وكأنها بدأت تعيد موسكو إلى المجال العربي/ الإقليمي من بوابتيه السورية والإيرانية.
تتخلق في أيامنا بيئة سياسية محلية دولية بتعاون روسي - ايراني، يراد لها أن تنتشر في المنطقة بحجة محاربة الإرهاب تارة، وحماية الأمر القائم تارة أخرى، يرجح أن تقرر نتائج الصراع الدائر فيها اليوم، وان يعبر قيامها عن تأسيس شبكة علاقات ومصالح يعني توضعها في منطقتنا تشكل حاضنة جديدة لصراعات دولية وإقليمية ومحلية اشد ضراوة مما عشناه إلى اليوم، لن يبقى معها شيء على ما هو عليه اليوم!.