لنا في الآخرين شعلة، وللآخرين لهم فينا اشتعال، وتتفاعل وتتقاطع في علاقاتنا بلا حدود. وإن التفاعل بين البشر قد يكون فيه تعدٍ على ذات الآخرين إلى حد تهميش خصوصياتهم وجوهرهم، خصوصاً إذا كان أحدهم محظياً ومصاحب شهرة ينهشه الآخرون بحبهم وتطفلهم، ويغيبونه عن نفسه وجوهره، على الرغم من دفق الحياة والسعادة التي يغمرونه بها.

وهنا، يصاب صاحب الشهرة البطل على خشبة المسرح، ولكنه ضحية جمهوره، إذ ينزعون عنه خصوصيته. وعندما يغلق الباب على نفسه، يأمل أن يكون بشراً طبيعياً وعادياً، بشره وخيره، بخطئه وخطيئته، دون رقيب أو حسيب، المهم أن يكون، أن يكون هو ذاته، ويعبر عن جوهر نفسه، حتى ولو كان غولاً كاسراً أو حَمَلاً ضعيفاً، المهم أن يكون كما هو، غير مثقل بذاكرة الناس وتذكرهم وترصدهم الدائم لأنفاس الشهير وهمساته وزلاته، ومحاسبته عليها، ليس كإنسان عادي، وإنما كصاحب شهرة وانتشار، الأمر الذي ينتج تناقضاً ذاتياً عميقاً إلى حد الفصام.

ولعل الشهرة في التمثيل التي تصيب صاحبها، هي أكثر النماذج وضوحاً على هذا التباين والتناقض في حياة الممثل المشهور بين الدور والواقع.

فعطيل الغيور المصاب بجنون الشك، وهو القاتل لزوجته المخلصة إيميليا، الذي جسّد جنونه وصراعاته الداخلية الممثل المبدع بول روبيسون على خشبة المسرح، إذ أبكى الجماهير ألماً وشفقة عليه، وحزناً وتعاطفاً مع إيميليا المخلصة. إن تقمص الشخصيات تبدو لنا كمشاهدين حقيقية ومؤلمة، فننسى أن الممثل مساءً يذهب إلى وسادته ليستريح من وطأة التقمص والانسلاخ عن الذات. فيحاول بهدوء المساء، أن يلملم ذاته بعض الشيء، ليستعيد حقيقتها.

وهو ألم لا يتفهمه الشغوفون المهووسون من الجماهير، التي ترى في صاحب الشهرة هدفاً يقتدى به. ويبقى الممثل في أذهانهم بطل الحكاية والرواية وواقعها في مخيلتهم، بل إن أي عمل واقعي وطبيعي يمارسه الممثل المشهور، كالزواج أو الطلاق، أو حتى حادث سير مروري وغيرها، نجد الجمهور شغوفاً فضولياً ومتطفلاً، ما يجعل الشهرة عبئاً على صاحبها، بل إن شخصياته تتحول إلى أشباح تطارده وتنفيه عن ذاته أينما ذهب، لأن الناس لا يرونه بقدر ما يرون أدواره الفنية. سُئِل عمر الشريف ذات يوم حول مدى سعادته بالشهرة العالمية ومحبة الجمهور، فأجاب «أن ذلك لا يهمه، لأنهم يحبون عمر الشريف الممثل، وهو شخصية مختلفة عنه، وقد لا تمت لواقعه بصلة».

وهكذا، بعد ذاك العمر الطويل من التمثيل والتقمص والتجسيد والتحليق عالياً في شخصيات عالمية، أدرك شريف أن فضاء الشهرة الواسع، هو أصغر من صداع في الرأس أو حشرجة عابرة في الحلق أو أرق المساء. وهنا، فإن اشتعال جذوة العلاقة بين جمهور وفنان، لا تعدو سوى خليط شخصيات تقمّصها الممثل وعزلته عن ذاته، وما شغف الجمهور إلا سياج فاصل يُضيّق الخناق على حياة المشاهير ويعزلهم عن واقعيتهم، فإن غرقوا في شهرتهم، أصابهم ما يسمى «بالاحتراق الذاتي».

وما يزيد الطين بِلّة، أن سعار الإعلام والإعلان، يحوّل المشهور إلى سلعة ومنتج ترويجي، يتم من خلاله الترويج لمنتجات استهلاكية أخرى، مثل العطور والشامبوهات، وحتى بلاط الحمامات والسيراميك والملابس، فيرى الممثل نفسه أداة في كل مكان، ويستهلك ذاته، كما يستهلكه السوق ورأس المال الجشع، فتعقد الصفقات لجني المزيد من المال. ويظن الفنان..

ممثلاً أو مغنياً بشهرته في بداياته، أنه مالك الأرض ومن عليها، إذ يشار إليه بالبنان، ويكون محظياً في أي مكان يرتاده. وما إن يفاجئه الواقع بمرض عضال ويخونه الزمن والجسد، يدرك كم هو وحيد، وأن الحقيقة المطلقة الوحيدة التي تلازمه هي الألم. وعلى الرغم من ذلك، فإن الإعلام يلاحقه من ثقوب الباب والنوافذ وإشارات المرور وفي المستشفيات، لأنه ما زال منتجاً استهلاكياً.

ومادة جماهيرية دسمة، وهو أمر قاسٍ أن تجد ممثلاً يعاني سكرة الموت، وتسأله مذيعة عن أحب الشخصيات إلى قلبه في مشواره الفني الطويل، إنها عزلة ما بعدها عزلة، وألم لا يضاهيه ألم. وكثير من هؤلاء المشاهير في آخر عمره، من يفضل الاختفاء بعيداً، ويموت كأسد طريد جريح بعيداً عن مملكته، كيلا يُخدش كبرياؤه الوهمي الذي صنعه له جمهوره وآلة الإعلام والاستهلاك الشرهة.

يختفي، على أمل أن ينساه الناس في ما تبقى له من عمر. وبعض هؤلاء الذين انغمسوا في شهرتهم، وأيقظهم ألمهم العاطفي والنفسي والجسدي، لم يحتملوا العزلة، بل بقيت تطاردهم شخصياتهم وجمهورهم، فما كان منهم إلا أن استعجلوا الرحيل، فاختار أن يمثل الدور الحقيقي الأكثر إيلاماً، بأن ينتحر وحيداً، وعلى طريقته بلا مُخْرج أو جمهور يصفق، أو خَشبة مَسرح، وبلا كاميرات أو تصريحات.

وخير ما يمكن أن يقال هنا، وإن اختلف السياق، إلا أن المعنى هو ذاته وحاضر بقوة في كلمات الشاعر محمود درويش، إذ قال: «تُنسى، كأنك لم تكن، تُنسى كمصرع طائر، ككنيسة مهجورة تُنسى، كحب عابر، وكوردة في الليل... تُنسى، تُنسى، كأنك لم تكن شخصاً، ولا نصاً... وتُنسى».'

ويختمها فيقول: «فأشهد، أنني حيّ وحرّ حين أُنسى». وكأنه بذلك يرى في نسيان البشر له حرية مطلقة، واستعادة للذات الغائبة، وفي قصيدة جداريته، يتناول ألم الغياب عن الذات فيقول: «أَما أَنا، وقد امتلأتُ بكُلِّ أَسباب الغياب، فلستُ لي … أَنا لَستُ لي.. أَنا لَستُ لي». ثمة حقيقة لا لبس فيها، يدركها صاحب الشهرة في لحظة الموت التي تباغته، أو قد يستنديها منتحراً ومنسياً، هي اللحظة الصادقة في حياة الزيف والانتشار والتشظي بين الشهرة وهوس الجمهور المتطفل وآلة الاستهلاك والتسليع التي لا ترحم.