ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال المحير، المتعلق بالمآل الذي ينتظر سوريا، ليس فقط لأن الأيدي التي تتلاعب بمصيرها أقوى بكثير من الأيدي التي تحاول حمايتها، وتجديد كيانها والمحافظة عليه موحدا وحرا.

وإنما كذلك لأن ما نشهده من أحداث متسارعة، مفاجئة ومتناقضة، يقود إلى نتائج ومآلات متضاربة، يمكن أن ترجح في أي وقت كفة أحد احتمالاتها على سواه، بما تمارسه الدولتان الكبيرتان من سياسات جمدت أو همشت الأطراف الأخرى، المعنية بالشأن السوري أو الدول الرديفة المنخرطة في البحث عن حل سياسي له، وتسعى للعب دور خجول من وراء الكواليس الأميركية، مثلما تفعل أوروبا.

ولعله مما يزيد الإجابة عن السؤال صعوبة أن ساحة الصراع السورية تتسم بقدر لا يني يتصاعد من احتدام متنوع المظاهر والأطراف، يتجلى في التبدل السريع والمباغت للاحدات، وما يدخل إلى ساحة الصراع من سلاح ورجال، ويمارس بين المتحكمين به من تفاهمات يبدو لأول وهلة أنها ستنجح في وضع الحرب على سكة حسم عسكري أو سياسي.

لكنها سرعان ما تتهاوى، خلال أيام أو ساعات، ليتأكد مرة أخرى أن ما يستخدم لوضع حد للصراع أو لإدارته من أدوات وأساليب لا يحقق مهمته المعلنة، بل هو جزء من إدارة الأزمة وما يترتب عليها من تعقيدات تزداد تفاقما، سواء في ما يتعلق بمفرداتها الأساسية، أم بخيارات قوتيها الكبيرتين وتوابعهما المحليين والإقليميين.

من سيصدق من الآن فصاعدا أن إعلان بوتين عن سحب الجزء الأكبر من طيرانه لم يكن تخديرياً، إذا كان يشن مئات الغارات يوميا على مناطق سورية جد متباعدة ؟. وما معنى استخدام قاذفات استراتيجية مجهزة لحرب عالمية، وأساطيل تطلق صواريخ طوافة من ألفي كيلومتر، وقوات مشاة تكفي للانتشار على جميع طرق سوريا وصولا إلى حلب ودير الزور، تمنع تنفيذ تعهدات روسيا المحددة في اتفاقات الهدنة المتعددة، إذا كان هدفه الحقيقي بلوغ حل سياسي وليس الحسم العسكري؟.

بالمقابل، من كان يعتقد أن أميركا، عدوة التدخل العسكري في سوريا، ستنشر قوات برية وجوية شمال سوريا تغطي مهماتها آلاف الكيلومترات المربعة برا وعشرات الآلاف جوا، وأن الأميركيين، الذين وافقوا على الحرب ضد النصرة بمشاركة روسيا، سيقاتلون داعش مع الجيش الحر، الذي يتعرض يوميا لضربات الروس ؟.

هل تسمح هذه الوقائع لنا بالقول بوجود تقاسم وظيفي للأرض وللأجواء والمياه السورية بين الدولتين، وأن حشد قواهما يتخطى الصراع السوري إلى أبعاد إقليمية تتصل بسياساتهما ورهاناتهما.

الدولتان الكبيرتان، وباستعدادهما لمرحلة قادمة من صراعهما خارجها، تسوقان خطواتهما العسكرية بذريعة تبدر مقنعة هي الحرب ضد داعش ـ هدف أميركا ـ،والنصرة ـ هدف روسياـ ؟. أخيرا، كيف نفهم إعلان أميركا رفض إقامة منطقة آمنة في سوريا، إن كانت قواتها الخاصة تقاتل إلى جانب الترك في المنطقة التي أعلنها هؤلاء آمنة؟.

ومن كان يعتقد أن ترتيب العلاقات التركية الروسية سيفضي إلى اشتراك القوات الأميركية في حرب تركية تهدد حلفاء موسكو في سوريا، وأميركا في العراق ؟.

تتزايد الغاز الصراع السوري، بتحوله المتزايد، الخفي والظاهر، إلى صراع أميركي /‏ روسي تتعاظم فيه سياسات الشد والجذب، بينهما وداخل كل دولة منهما، بما في ذلك داخل أميركا، حيث تعلن خارجيتها عن هدنة أخرى وتؤكد أنها ستخفف غلواء الصراع مع روسيا، فتبادر وزارة دفاعها إلى إرسال مزيد من عسكرها إلى ساحاته السورية والعراقية، والإعلان عن تعاونها مع تركية في ما يتصل بنشرهم في سوريا، كي لا تتسبب بمزيد من الإرباك لقوات درع الفرات، مثلما حدث مرات عديدة خلال تقدمها في المنطقة الواقعة بين جرابلس والراعي ؟.

وفي حين تبدو موسكو موحدة خشية مفاجآت العسكر الأميركي المتفوق كثيرا على عسكرها، داخل سوريا وفي جوارها، تدخل إسرائيل بقوة إلى الصراع، لتضع يدها على مواقع تجعل دورها وازنا في مراحله التالية، التي ازعم أنها ستتخطى سوريا إلى بقية بلدان المنطقة، بما في ذلك الخليجية منها.

لن تتكشف ألغاز الغوامض السورية إلا بعد أن يكتمل انتقال صراع الجبارة الدوليين والإقليميين إلى جوارها. عندئذ، ستقع تسوية كبرى بين العملاقين تستميت روسيا في سوريا كي لا تخرج خاسرة منها، وترسل يوميا المزيد من طائراتها وجنودها لقتل السوريين، متوهمة أن قتلهم يضغط على أميركا، بينما ينسى بوتين أنه في نظر واشنطن قيصر من خشب، وان ساقيه لا تقويان على حمل مشروعه القيصري إلى سوريا، الذي لم ينجح إلى اليوم في غير «شيشنة» دور بلاده فيها !.