اعتاد أبي على إخبارنا عن قصة اليوم الذي أصبح فيه مواطناً أميركياً. لقد كانت لديه بدلة واحدة، زرقاء اللون.

وفي اليوم الذي أصبح فيه مواطناً، ارتدى تلك البدلة للحضور أمام المحكمة الفدرالية، وسط مدينة شيكاغو. يومها كان جميع الرجال يتجهون للمحكمة ببزاتهم، وذلك في أوائل ستينيات القرن العشرين.

لم يكن والدي محامياً أو سياسياً، بل كان نادلاً مهاجراً في أحد فنادق سلسلة «هيلتون»، مع زوجة وثلاثة فتية صغار. وكان يحاول البدء بمشروع بقالة مع أخيه. وفي المحكمة، سأله القاضي، مرتدياً عباءته السوداء، قائلاً: لو أصبحت أحد مواطني أميركا، هل ستحمل السلاح في وجه دولتك السابقة؟.

وبما أني مراسل، فقد شهدت مراسم أخرى لتسليم الجنسية. وقد كانت العائلات فخورة وسعيدة، والمهاجرين يحملون أعلام دولهم، بيد أني لم أسمع مثل ذلك السؤال. لم تكن لغة والدي الإنجليزية جيدة للغاية حينها، ولكنه بلا شك فهم السؤال الذي وجه إليه: هل كان ليقاتل البلاد التي قد ينزف دماً من أجل الدفاع عنها؟، وهل سيقتل أبناء جلدته في حال طلبت منه أميركا ذلك؟.

كان والدي قد أمضى عشر سنوات كجندي في الحرب، وهو يحمل بندقية كجندي في الجيش اليوناني خلال الحرب العالمية الثانية، مقاتلاً جيوش موسليني، ومن بعده الألمان، ومن ثم الاحتلال. وعقب مغادرة الألمان البلاد، كانت هناك حرب أهلية دامية مترعة بالأحقاد مع الشيوعيين. إذ كان يتم اقتراف العديد من الأفعال الخاطئة على كافة الأصعدة، ولم تقتصر المسألة على مقاتلة جيش لجيش آخر، وإنما وصلت إلى عائلة ضد أخرى. وبالتالي، لم يكن ذلك السؤال الذي طرحه القاضي مجرد تمرين أكاديمي.

وكان جوابه ملطخاً بالدماء والألم، وسؤالاً جديداً على عقله، نوعاً ما. لقد توفي أصدقاؤه بسبب ثلوج ألبانيا والجوع هناك. ومن ثم أتى كل من الجنود والدبابات الألمانية لارتكاب عمليات الإعدام في القرى. وعقب ذلك، انتشرت الدماء في كل مكان، نتيجة تلك الضراوة الرهيبة التي تستهلك أي بلد خلال الحرب الأهلية.

بالطبع، لم يخبرنا والدي عن ذلك بتلك الطريقة، كما لم يخبر القضاة عن الأمر. وجاء كل ما قاله بـ: «لقد كنت أفكر في كل الأمور التي حدثت». بمرور الوقت، كان علينا جمع القصص بأنفسنا، لندرك المسألة من قصاصات القصص التي جمعناها، لأنه لم يكن يحبذ الحديث عن الحرب. لقد نظرت إليه وقلت، نعم سيادتك سأقاتل. ليرد قائلاً: «لأني أردت أن أكون أميركياً»، مضيفاً: «لأنني رغبت بأن تكون أنتَ أميركياً، وبالتالي، لن تجرؤ دولة أخرى على القدوم هنا وإيذاءنا».

عندما أطلعني على المسألة في بادئ الأمر، كانت هنالك حشرجة في صوته. كنا وحدنا في السيارة عائدين إلى المنزل من متجرنا. لكنني كنت طفلاً صغيراً، ولم أفهم سبب تدخينه ونظره خارج نافذة السيارة، واكتفاءه بالصمت بعد ذلك. لم تكن تلك القصة من القصص العائلية المفضلة التي يجب علي تكرارها مراراً على مائدة العشاء مساءً. فقد كانت هنالك قصص أخرى أكثر دراماتيكية وإثارة.

ومن بين القصص الأخرى، قصة عمنا صوفيانو، الذي أحب فتاة من قريتنا وقتل على يد الشرطة الفدرالية. لقد كانت تلك من قصصنا المفضلة، أما قصة حصولنا على الجنسية الأميركية، كانت قصة مختلفة بالنسبة لنا، وكنا نجهل سبب ذلك، كوننا أطفالاً.

ومع ذلك، أردت وإخوتي محاولة تخيل وجود مكان آخر في عقل والدنا، مكان يمكن لجيش الغزاة أن يتمكن فيه منا. ومع ذلك، لم يكن لدينا إطار مرجعي، فقد ولدنا أميركيين. أصبحت مسألة كوننا أميركيين كإيمان بالنسبة لنا. فالولاء الذي عهدنا به في المدرسة، لم يكن مجرد كلمات وحسب. ولم يكن النشيد الوطني الأميركي، مجرد أغنية قديمة توجب علينا إنشادها.

كانت هذه الطقوس العلمانية في بوتقة أميركا، التي تجمعنا سوياً، سواء السكان الأصليين، المهاجرين، وأطفال المواطنين الجدد، حيث تقع إحدى قدمينا في البلاد الجديدة، والأخرى في البلاد القديمة.

نعلم بأن الوطنية غالباً ما تستخدم من قبل رؤساء الحرب التهكميين لدفع الشعب للحرب. بينما رفض لاعبي «إن إف إل» الأغنياء والمدللين، الوقوف أثناء عزف النشيد الوطني، في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، يعتبر نوعاً آخر من الحث السياسي.

لكن ألا تحتاج دولة مؤلفة من المهاجرين، لشيء لتعزيز التزاماتنا تجاه بلادنا، وبعضنا البعض، كمواطنين؟، وبالتالي، ما هو القاسم المشترك؟، لقد كان ذلك القاسم بجعبتي في يوم من الأيام، إلا أنني لا أراه اليوم. وبدلاً من ذلك، فإننا نتجزأ لأجزاء من النواحي السياسية والأخلاقية والعرقية. نحن غاضبون، ونتشاجر، ويتخذ كل منا مسالك منفصلة.