تحل هذا الأسبوع ذكري مرور 150 عاماً على افتتاح أول مجلس نيابي في مصر والعالم العربي والشرق الأوسط، هو «مجلس شورى النواب» الذي أصدر الخديوي إسماعيل (1830-1895) قرار تأسيسه في أكتوبر 1866، وكان وراء قرار الخديوي إسماعيل بتأسيس هذا المجلس - الذي كان الخامس من نوعه على مستوى العالم - كما قال في خطاب الافتتاح، رغبته في استكمال الجهد الذي بذله جده «محمد علي» من أجل «تمدين البلاد بأن تكون الأمور شورى بين الراعي والرعية» وأضاف المؤرخون سبباً آخر لإنشاء هذا المجلس، هو إدراك الخديوي، الذي كان قد بدأ يتوسع في الاقتراض من البيوت المالية الأوروبية، لتمويل مشروعات التحديث الطموحة التي كان قد بدأ في تنفيذها، أنه لا يستطيع أن يواصل العمل فيها، طالما هو يقترض بضمان ممتلكاته الشخصية، وأنه في حاجة إلى دعم وتأييد أعيان المصريين من أصحاب الأراضي، ومياسير التجار ودافعي الضرائب، لكي يطمئن الدائنون بأن ما يقترضه هو ديون عامة، يقترضها المصريون، ويتعهدون بسداد أقساطها وفوائدها الباهظة من الموازنة العامة، وهو ما يتطلب إنشاء مجلس للشورى، ينتخبون أعضاءه ويتذاكرون فيه المنافع الداخلية، والآثار المفيدة، بما في ذلك الموافقة على القروض الجديدة، وما قد يحتاج الخديوي لاستدانته من الأهالي أنفسهم.

ولم تكن لائحة 1866 دستوراً بالمعنى الذي عرفته مصر بعد ذلك، إذ خلت من أية مواد تتعلق بالحقوق والواجبات العامة، التي تكفلها الدساتير للمواطنين، أو تتعلق بتنظيم السلطات الثلاث التي تقوم عليها، بل كانت أقرب إلى قانون للانتخابات، ينظم طريقة إجرائها والشروط التي ينبغي أن تتوفر فيمن له حق الترشيح وحق الانتخاب، وتقصر سلطات المجلس نفسه، على بند واحد، هو أن يتداول في الأمور التي ترى الحكومة أنها من اختصاصاته، ويبدي الرأى فيها، ثم يفرض ذلك كله على الحضرة الخديوية.

وقصرت اللائحة حق الترشيح والانتخاب على مشايخ البلاد، وحددت عدد أعضاء المجلس بما لا يزيد على 75 عضواً، يوزعون حسب تعداد السكان في كل قسم إداري من البلاد.

في الجلسة الافتتاحية للمجلس - التي عقدت يوم 19 نوفمبر عام 1866 - وصل النواب الذين فازوا في الانتخابات مبكرين إلى مقر المجلس بديوان وزارة الأشغال، وتوزعوا داخل القاعة التي خصصت لاجتماعهم، في انتظار وصول الجناب العالي الخديوي ليلقي الخطبة الافتتاحية. ودخل «محمد شريف باشا» - وزير الداخلية - إلى القاعة، لكي يطمئن إلى أن التعليمات التي أصدرها بشأن ترتيبات جلسة الافتتاح قد نفذت.

وبعد أن نبه المسؤولين عن ذلك إلى بعض الأمور التي تحتاج إلى تعديل، لاحظ أن الكتلة الكبرى من النواب، يجلسون على مقاعد الجانب الأيسر من القاعة، فقال لهم إن المجالس النيابية الأوروبية، تنقسم دائماً إلى كتلتين، إحداهما تضم نواب الأحزاب التي تؤيد الحكومة القائمة، وهؤلاء يجلسون على المقاعد التي تقع إلى يمين القاعة، بينما تضم الكتلة الثانية نواب الأحزاب التي تعارض الحكومة، وهم يجلسون على المقاعد التي تقع إلى يسار القاعة، وأنه يجدر بهم والحالة هذه، أن ينقسموا هم أيضاً إلى كتلتين، واحدة مع الحكومة تجلس على اليمين، والثانية ضدها تجلس على مقاعد اليسار.

وما كاد شريف باشا ينتهي من ملاحظته، حتى هرول النواب الذين يجلسون على مقاعد اليسار، لكي يجدوا لهم مكاناً في مقاعد اليمين، وفي لحظات كانت مقاعد اليسار قد خلت من شاغليها، بينما تزاحم النواب جميعاً للبحث عن مكان لهم في جنة اليمين... وقال أحدهم: نحن جميعاً عبيد أفندينا.. فكيف نعارض حكومته؟!

عاش هذا المجلس ثلاثة عشر عاماً، ما بين عامي 1866 و1879، تجدد خلالها انتخابه بالطريقة نفسها مرة كل ثلاث سنوات، وظل عدد من أعضائه يحتفظون بمقاعدهم فيه لأكثر من دورة، اكتسبوا من خلالها خبرة نيابية، دفعتهم إلى معارضة بعض إجراءات الحكومة، وفي آخر دورة له، استصدرت الحكومة أمراً من الخديوي بفض الدورة، بعد أن انتهت مدتها، وهي ثلاثة أشهر من كل عام، فرفض النواب تنفيذ القرار، وطالبوا بحق المجلس في التصديق على القوانين قبل إصدارها خاصة ما يتعلق منها بالميزانية وبتسوية الديون، ولما أصرت الحكومة على فض الدورة، قال عبد السلام المويلحي باشا - عضو المجلس وشهبندر التجار - إن النواب لن يغادروا مقاعدهم إلا على أسنة الرماح، ليكرر بذلك عبارة شهيرة كان «ميرابو» - أحد زعماء الثورة الفرنسية - قد قالها حين حاولت الحكومة فض اجتماع الجمعية الوطنية أثناء الثورة.. وانضم الخديوي إسماعيل إلى النواب الثائرين، إذ كان ممثلو الدائنين قد استلبوا سلطته، فقرر إقالة الحكومة، وكلف «شريف باشا» بتشكيل حكومة «من أعضاء أهليين مصريين يكونون مسؤولين لدى مجلس الأمة الذي ستنظم طريقة انتخابه، وتقرر حقوقه على النحو الذي يكفل حقوق الأهالي».

وهكذا بدأ مجلس شورى النواب جلساته بهرولة النواب نحو مقاعد اليمين، وأنهاها بهرولة الحكومة نحو مقاعد اليسار!