يبدو أن بوتين قرر إزاحة السياسة جانباً، والتحدث إلى العالم بلغة السلاح والحرب، لا يهمه إن نشبت حرب باردة جديدة مع أميركا، تضمر، كالحرب الباردة السابقة بين السوفييت وواشنطن، حروباً محلية قد تكون الحرب السورية أول ما سيترتب عليها من حروب قادمة.

دخل بوتين إلى سوريا غازياً، وككل غاز أراد إنجاز مهمته والقضاء على خصومه بأقصى سرعة ممكنة، وأعلن شخصياً أن مهمة جيشه ستنجز خلال ثلاثة أشهر، وإلا فخلال ستة أشهر على أبعد تقدير، يعود بعدها سالماً غانماً إلى موسكو. واليوم، وافق مجلس الدوما الروسي على وجود طويل الأمد، وغير محدود زمنياً في سوريا، بعد فترة قصيرة من قيام بوتين بعقد اتفاقية مع نظام الأسد غير الشرعي تعطي جيشه الحق في المرابطة داخل أرض سوريا وعلى سواحلها طيلة خمسة وعشرين عاماً.

بعد أوكرانيا دخل بوتين إلى سوريا في حساباته، لا بد من الرد على قضم الحضور السوفييتي، الذي أعقب سقوطه وأدى إلى إخراجه من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، بما في ذلك كوبا وفنزويلا، ولا بد أيضاً من استعادة ما كان له في الماضي من نفوذ وحضور على بلدان كثيرة، منها سوريا، التي ما إن غزاها حتى شرع يخطط لاستخدامها معبراً يدخل من خلاله إلى جواره العربي والإقليمي، حيث يجب إقامة نظام أمن إقليمي بذريعة محاربة الإرهاب، في موازاة التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة وبالتعارض معه، لأخذ مواقع في المنطقة يعني التحالف أو التعاون أو التنسيق معها تقليص نفوذ وحضور أميركا فيها، فهل كان غزو سوريا بداية غزو المنطقة، وكانت خطة بوتين تحويل بلاد الشام إلى نقطة تحشيد جيوش وتخزين أسلحة تمهيداً للعبور إلى البلدان المجاورة، بعد الأخذ بطرق في الحرب تلقي الرعب في قلوب حكامها وشعوبها، وتقنعهم أن روسيا لا تقل قوة وبأساً عن أميركا، وأنها عازمة على تحقيق ما تريد، مهما كانت تكلفته؟

ترجح هذا الاحتمال أحاديث كبار جنرالات روسيا بعيد غزو سوريا، وزياراتهم إلى العراق والأردن التي عرضوا خلالها إقامة نظام الأمن الإقليمي، الذي قرروا إقامته، وأرادوا له أن يضم العراق والأردن والسعودية وسوريا ولبنان إلى جانب إيران، وأن يكون مقره عاصمة الأردن، حيث سيبنى مركز قيادة يعمل فيه ضباط يمثلون بلدان النظام المختلفة، سيتعاونون مع إسرائيل وإن بطرق غير مباشرة والتفافية، عبر علاقاتها العسكرية والأمنية المميزة مع روسيا، على أن ينافس أميركا في الحرب على الإرهاب، ذريعة الجميع للتغلغل إلى المنطقة ووضع أيديهم على أقدارها، والتحكم في مساراتها.

هذه الاستراتيجية الشرق أوسطية مبنية على عاملين جوهريين:

ـ عزوف واشنطن عن الانفراد بالسيطرة على النظام الدولي، بعد أن بانت لها استحالتها. ومع أن البيت الأبيض وضع تصوراً لتراتب دولي جديد، يترك لها القمة والقرار، فإن الدلائل ترجح أن يكون الكرملين يتطلع إلى بلوغ شراكة ما معها اعتماداً على قوة روسيا العسكرية، التي تتمتع بتوازن نسبي مع قوتها، وبما أن الاتحاد السوفييتي انهار في ظل هذه القوة المتوازنة، فإنه يبدو مصمماً على استخدامها عنصراً رادعاً يعزز سياسة حافة الهاوية التي أعلن عنها في سوريا، لتخويف أميركا من مواجهة، وإبقاء يديه طليقتين في الشأن السوري. هذا النهج سيثير قدراً هائلاً من الاضطراب في الحياة الدولية، وسينعكس بصورة خاصة على سوريا والمنطقة العربية، حيث يدور اليوم صراع حار ويومي طرفه الآخر واشنطن، التي يعتقد بوتين أنها ليست مهيأة للرد على تحدياته، لكونها منهمكة في عملية على درجة رفيعة من التعقيد هي نقل مركز ثقل العلاقات والمصالح الدولية من الأطلسي إلى الهادي.

ـ تطلع بلدان عديدة إلى التحرر من سطوة أميركا وما تمارسه من تجاهل لحقوقها ومشكلاتها، وإلى وجود منافس لها. هل تستطيع موسكو ملاقاة هذا التطلع بما لديها من إمكانات محدودة، وكيف تنافس أميركا بحجم إنتاج لا يزيد على حجم إنتاج إيطاليا، الذي يقل عن إنتاج ولاية كاليفورنيا وحدها؟

هذان العاملان لا يحولان بالضرورة بين موسكو وبين العمل لاستعادة مواقع يمكن أن تخدمها اقتصادياً واستراتيجياً ككوبا وفنزويلا وفيتنام، حيث تمكنها الأولى من إقامة تماس مباشر مع أميركا، والأخيرة مع الصين، وتزيد عودتها إليهما مكانتها الدولية وقدراتها الحركية، وتعد بداية بزوغ عهد جديد في العلاقات الدولية، يشير إلى تخلق محتمل لثنائية قطبية قد لا تتسم بالتكافؤ، لكنها تنهض على ساقين، واحدة أميركية، وأخرى روسية: هزيلة حقاً، لكنها يمكن أن تسهم في إخراجها من احتجاز دولي لن تمكنها قوتها العسكرية من مبارحته حرباً، ويفضي استخدامها أداة سياسية إلى توسيع وتعزيز مكانتها الدولية، وإن استدعى الأمر أخذها بسياسة حافة الهاوية، كما تمارسها في سوريا.