عندما قامت الأزمة العالمية في الثلاثينيات من القرن الماضي، لم تكن هناك سوى دولة اشتراكية واحدة هي الاتحاد السوفييتي. والسؤال هو هل جاء العلاج الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي آنذاك بنتائج أفضل من اقتصادات السوق؟

الحقيقة أن النظام الاشتراكي قد واجه مشاكل اقتصادية هائلة بعد الثورة البلشفية، فبعد سياسة التأميم التي بدأها لينين، واجه الاتحاد السوفييتي أزمة اقتصادية بالغة القسوة، ما دعاه إلى اتخاذ توجهات جديدة، أطلق عليها السياسة الاقتصادية الجديدة، وذلك بإعادة دور السوق وتشجيع المزارعين على بيع إنتاجهم الزراعي في الأسواق، ما أدى آنذاك إلى انتعاش الاقتصاد. وعندما تولى ستالين الحكم بعد وفاة لينين، فقد تخلى عن سياسة سلفه.

وبدأ مرحلة الإنتاج الجماعي collectivization، حيث واجه مقاومة عنيفة من الملاك، وبدأ بما يعرف بالتطهير العظيم ووضع ستالين الاتحاد السوفييتي داخل ستار حديدي يحول دون الاتصال الخارجي، وضبط الاستهلاك المحلي، لتوفير المدخرات بأساليب قمعية شديدة القسوة.

وفي الوقت نفسه فإن قيام الأزمة العالمية في العالم الرأسمالي، قد ضيقت من فرص الاستثمار في الدول الصناعية، ما دعا العديد من رجال الأعمال في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة الأميريية، للبحث عن فرص الاستثمار خارج بلادهم، وكان وزير ستالين للتجارة -أنستاسميكويان- بارعاً في عقد الصفقات التجارية مع العديد من هؤلاء لمنح قروض للاتحاد السوفييتي لاستيراد الآلات من الولايات المتحدة، التي كانت تعاني الكساد المحلي والعالمي. وهكذا، حقق الاتحاد السوفييتي إنجازاً اقتصادياً، وخاصة عسكرياً، هائلاً، وإن كان بتكلفة باهظة.

ولكن نجاح الاتحاد السوفييتي في بناء هذه القوة العسكرية والصناعية لم يرجع فقط إلى صرامة النظام الحاكم، وما أتبعه من قسوة في معاملة المواطنين، وإنما رجع ذلك بدرجة أكبر نتيجة، لما يتمتع به الاتحاد السوفييتي من موارد اقتصادية هائلة ومتنوعة، إضافة إلى تقدم ملموس خاصة في العلوم الطبيعية.

ويظل اعتبار وفرة الموارد الطبيعية وتنوعها لدى الاتحاد السوفييتي هو أحد أهم العناصر التي ساعدت على ظهور هذا القطب العالمي. ولم يكن غريباً، أن يتنبأ المفكر الفرنسي دي توكفيل، في كتابه عن الديمقراطية في أميركا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بأن أهم دولتين في العالم ستكونان روسيا والولايات المتحدة، لما يتمتع به كلاهما من موارد طبيعية هائلة ومتنوعة، بما لا يجاريها أي مكان آخر في العالم.

الحقيقة أن النظرية الاقتصادية قد عرفت حقبتين، الأولى وتمثلها النظرية التقليدية لآدم سميث، وريكاردو، وجان باتيستساي، وهي تصلح بالدرجة الأولى لظروف الدول النامية، والتي تبدأ في دخول المجتمع الصناعي المتقدم، والحقبة الثانية ويمثلها كينز، التي تراعي بدرجة كبيرة ظروف الدول الصناعية المتقدمة، والتي حققت معدلات مرتفعة من التقدم الاقتصادي، فالدول النامية ليست كالدول الصناعية المتقدمة، وما يصلح لأحدهما لا يصلح بالضرورة للآخر.

الدول النامية عادة دول فقيرة نسبياً، وجهازها الإنتاجي محدود وغير مرن، ومعدل دخل الفرد فيها منخفض. وبالتالي فإن القدرة على الادخار تكون محدودة. ولذلك، فإن الاقتصادي الفرنسي جان باتيستساي يقول إن العرض يخلق الطلب فالمشكلة لدى الدول الفقيرة هي مشكلة ضعف إنتاجها، أما إذا تزايد الإنتاج وما ترتب عليه من زيادة في العمالة، فإن الطلب سيكون متوافراً وجاهزاً.

وليس الأمر كذلك في الدول المتقدمة، حيث يتمتع الأفراد أو عدد كبير منهم، بدخول كافية تزيد على حاجتهم للاستهلاك، فهذه الدول لا تعاني من نقص في المدخرات المحلية، بل ربما في زيادتها. والسؤال هو هل تستخدم هذه المدخرات بالضرورة من أجل الاستثمار أم الاكتناز؟ الإجابة تتوقف على مدى التفاؤل والتشاؤم بالنسبة للمستقبل، فإذا كانت الأجواء لا تدعو إلى الاطمئنان، فإن القادرين على الادخار يترددون في الاستثمار. وعلى العكس، فإذا كان المستقبل يدعو إلى التفاؤل، فإنهم يقبلون على الاستثمار، وبما يزيد الدخل القومي. ولذلك قال كينز على عكس التقليديين- إن الطلب يخلق العرض الكافي.

فالفارق في زيادة الإنفاق بين الدول النامية والدول المتقدمة، هو أن الدول النامية لا تتمتع بطاقة إنتاجية كافية ومرنة لمواجهة الطلب المتزايد فتكون النتيجة هي زيادة الأسعار والتضخم النقدي. أما الدول المتقدمة نظراً لأنها تتمتع بجهاز إنتاجي مرن، فإذا زادت الدخول زاد معها الطلب، الأمر الذي سوف يؤدي الى مزيد من الإنتاج.

وإذا عدنا إلى مثال إنجلترا في فترة الثلاثينيات، فعلينا أن نتذكر أن إنجلترا كانت تقريباً- أكبر دولة صناعية، وبالتالي كانت صناعاتها قادرة على الوفاء باحتياجات السوق مع زيادة الطلب. كذلك فإن إنجلترا كانت تتمتع في ذلك الوقت بأكبر مستعمرات في العالم، وبما يوفر لها المواد الأولية فضلاً عن الأسواق لتصريف إنتاج استثماراتها الجديدة.

وأهم من هذا وذاك، فإن الجنيه الاسترليني كان عمله التداول الدولي، وبحيث إن إنجلترا كانت قادرة وإضافة إلى موارد مستعمراتها وحصيلة صادراتها الصناعية على الشراء من أي مكان في العالم بالاسترليني.

ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة.