من أشهر الأدبيات في تاريخ الإدارة قصة جميلة نشرتها مجلة هارفارد بيزنس ريفيو، التابعة للجامعة العريقة، في مطلع السبعينيات، تحولت إلى أكثر المقالات بيعاً في تاريخها حتى يومنا هذا،
وهي بعنوان «من لديه القرد؟» أو Who’s Got The Monkey، وهذه القصة تتلخص في تصوير الموظفين أو المهام الوظيفية الملقاة على كاهل المديرين «بالقردة»، فهي تصور لنا ما خلاصته، أن الموظف حينما يلتقي مديره، ويسأله عن أمر ما في العمل ثم يقول المدير:
«دعني أفكر في الموضوع» أو «سوف أرد عليك» أو «ابعث لي رسالة بالموضوع»، فإن «القردة» أو المهام في هذه الحالة قد قفزت من كاهل الموظف إلى كتف المدير، فصار لزاماً عليه أن يرد. وبلغة الرياضيين، أصبحت الكرة في ملعب المدير، ولذا فهو يحاول أن يعيد القرد إلى مكانه، وهو المرؤوس.
من منا لا يعاني من هذه المعضلة، بدرجة أو بأخرى، وأحياناً من دون أن نشعر، فهذه المشكلة تقتطع ملايين الساعات من أوقات المديرين حول العالم، لا سيما في الأوقات التي كان يفترض بالموظف أن يواجه فيها ما يعترضه من تحديات بنفسه، فوقت المدير عموماً، كما تشير القصة، وواقع الحال، ينقسم إلى التالي:
وقت يقضي فيه مهامه حسبما تمليه عليه اللوائح والأنظمة الداخلية، ووقت يقتطعه منه الموظفون في زياراتهم له، ووقت آخر «حر» يفترض بالمدير أن يستخدمه لمهامه الإشرافية، والتأكد من أن كل المرؤوسين يقومون بأدوارهم الوظيفية والإنتاجية على أكمل وجه.
وهذا الأمر هو ما يدفع رواد الإدارة في العالم، في محاضراتهم ودوراتهم وأدبياتهم، إلى حث المسؤولين على محاولة بذل قصارى جهدهم، لكيلا ينكبوا هم على أداء المهام اليومية لغيرهم، بل التأكد من أن طاقم العمل هو الذي يقوم بدوره بنفسه، ولا يتدخل المدير إلا في حالات طلب المساعدة المبررة، سواء لقلة خبرة المرؤوس أو لحاجته لصلاحيات أو موافقات مسؤوله المباشر.
والوضع الطبيعي لتراتبية الإدارية أن الموظف هو الذي يجب عليه أن يدخل على مديره حاملاً إليه الحلول، وليست المشكلة وحدها، ليضعها جميعاً على طاولة المدير، ثم يشير إلى الحل الأمثل من وجهة نظره كونه مرؤوساً. وليفرق المسؤول أيضاً بين المرؤوس الحاذق، والمنتج وبين «الموظف المراسل» الذي ينقل المشاكل بالعمل ذهاباً وإياباً ولا يشكل أي قيمة مضافة. صحيح أن «الخبرة تلعب دور» .
كما يقال، لكن ينبغي أن يجتهد الكل على قدر استطاعته. هنا يكتمل عقد العمل الجماعي الفعّال. وهذا الأسلوب هو الأمثل في التعاون الإداري حتى يبقى للمدير متسع من الوقت، ليشرف على مرؤوسيه ويحمسهم ويشجعهم، ويدقق في أخطائهم الكبيرة.
ويشد من أزرهم حينما تتكالب عليهم الضغوط الوظيفية في الأوقات الحرجة، فالمدير بشر مثل سائر الناس، فهو عندما ينغمس في العمل اليومي وضغوطاته لن يجد فسحة من الوقت لتنفيذ السياسات العامة المناطة به كونه مديراً، ناهيك إن كان يقود مؤسسة عملاقة.
ولهذه الأسباب يرى البعض، وأنا منهم، أن عقد المسؤول لاجتماعات أسبوعية ثابتة مع مديري الإدارات يعد أمراً مهماً، وأن يحاولوا ألا يأتوا إلى مكتبه إلا للضرورة.
وبذلك يعود المدير مرؤوسيه على أن يكون هو ملاذهم الأخير (وليس الأول)، وذلك بعد أن تتقطع بهم السبل في البحث عن حل. في هذه الحالة، يستطيع المدير التخفيف من الأعباء الوظيفية أو تلك «القردة»، التي تحاول القفز على كاهله كلما مر في رواق العمل، فينتهي به اليوم ولَم يمارس دوره كونه مديراً أو قيادياً يقود دفة السفينة، فالقيادي مثل ربان السفينة أو الطائرة إذا انشغل بالصغائر خارج قمرة القيادة سيقع ما لا يحمد عقباه، عاجلاً أم آجلًا.