إثر انطلاق معركة تحرير الموصل استضافت باريس في العشرين من أكتوبر الجاري قمة وزارية، شاركت فيها عشرون دولة، تحت عنوان «المستقبل السياسي لمدينة الموصل»، لمناقشة سبل إحلال الاستقرار في المدينة ومحيطها، بعد هزيمة تنظيم داعش، وبحث الوسائل اللازمة للحيلولة دون قيام التنظيم بإعادة توحيد صفوفه، وتشكيل بؤر جديدة قد تكون أكثر خطورة.
فرنسا هي الدولة الأوروبية الأكثر اهتماماً بالحرب على الإرهاب في العراق وسوريا، ويمكن تفهم ذلك لأنها عانت أكثر من غيرها من العمليات الإرهابية.
كما أنها الأكثر تفهماً لقضايا الشرق الأوسط السياسية خاصة بعد تراجع الدور البريطاني في هذه المنطقة، فهي تسهم بنشاط في قوات التحالف الدولي الجوية عن طريق حاملة طائراتها شارل ديغول، ومن خلال إحدى قواعدها الجوية في المنطقة إضافة إلى أن لها قوة مدفعية فاعلة في ميدان المعركة.
إلا أن ذلك لا يعني أن بقية الدول الأوروبية غير آبهة، بما يدور في الموصل فقد حذر الاتحاد الأوروبي دوله بأن هزيمة تنظيم داعش في معركة الموصل قد يترتب عليها هروب بعض عناصره، والتسلل إلى أوروبا بعد أن بدأت تضيق عليهم ساحات الشرق الأوسط والشمال الأفريقي الفسيحة والثرية بالحاضنات لأفكاره.
ولكن القلق الدولي والأوروبي يتجاوز ذلك إلى القلق على مستقبل المدينة السياسي، ومن الذي سيحكمها، وكيف سيصار هذا في الوقت الذي يتراجع فيه صوت الاعتدال كثيراً، فهناك مخاوف حقيقية من أن غياب رؤية موحدة وواضحة لإدارة المدينة بعد تحريرها، قد يؤدي إلى عودة التناحر للسيطرة عليها في ما بعد، فالفرقاء العراقيون لا يحفلون بغير حجم النفوذ، الذي سيستقطع لصالحهم بعد هزيمة داعش.
والحقيقة أن المقصود بمعركة تحرير الموصل هو معركة تتناول تحرير مساحات واسعة في محافظة نينوى تضم عدداً كبيراً من المدن والقرى ذات ألوان مختلفة عرقية ودينية ومذهبية وثقافية، أبرزها مدينة الموصل نفسها. ما يميز هذه المعركة هو طبيعة التحالفات بين القوى الرئيسة المشاركة فيها، فللمرة الأولى يقف الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية ليس في موضع المواجهة.
كما كان الحال دوماً في الماضي، بل جنباً لجنب في مواجهة تنظيم داعش، وهو ما يبعث بعض التفاؤل الحذر بأن المشاكل المعقدة العالقة بين بغداد وأربيل ستجد حلولاً سالكة بعد عملية التحرير في أطر بعيدة عن التشنج والتهديدات.
وتجاوزاً للتعقيدات التي تتعلق بحجم النزوح المتوقع ومدى توافر الموارد المالية لمواجهته ومدى جاهزية الجهات الإغاثية في توفير اللوجستيات لتخفيف المعاناة إلى حدها الأدنى، وهي على أية حال متواضعة، تبقى المسارات نحو مستقبل المدينة رهينة الطرائق التي سيتم بها استرجاعها وطبيعة القوى المشاركة.
ومدى نظافة المعركة وخلوها من التجاوزات، فمدينة الموصل على درجة كبيرة من الأهمية لقدمها التأريخي ولكثافتها السكانية ودورها الذي يتجاوز مساحتها الجغرافية في الحياة السياسية، منذ تأسيس الدولة العراقية.
منتسبو تنظيم داعش في الموصل ليسوا جميعاً من الغرباء عن المدينة، بل هم من أهلها وقد انخرطوا في هذا التنظيم بدوافع شتى، ندم الكثيرون منهم في ما بعد على ذلك في حين بقي آخرون مصرون على الذهاب إلى نهاية الشوط.
وليس هناك من شك في أن تسلط داعش على مقدرات المدينة لمدة تجاوزت السنتين قد عمق مشاعر الكراهية والحقد على هذا التنظيم لما ألحق بها وبأهلها من مصائب، ما يعزز المخاوف من تحول المعارك حين تنتقل إلى شوارع المدينة عند اقتحامها إلى ممارسات ثأرية وانتقامية بعيداً عن قواعد الاشتباك وقوانين الحروب وتقاليدها خاصة من قبل الجماعات، التي نالها القسط الأكبر من التنكيل على أيدي هذا التنظيم،.
فقد وجهت العديد من الاتهامات لمليشيات مسلحة من هؤلاء بارتكاب ممارسات انتقامية في مناسبات سابقة بحق سكان قرى عربية في سنجار، وفي منطقة ربيعة غربي نينوى من منطلق اتهامها واعتبارها حواضن للتنظيم كما انخرط بعض هؤلاء كونهم متطوعين للقتال في صفوف البيشمركة.
اندلاع معركة الموصل تسبب بانفجار الخلافات الحادة الكامنة بين العراق وتركيا، التي لم يخل طرحها من التشنجات والتهديدات خاصة من الجانب التركي، الذي خالف الأعراف الدبلوماسية على أعلى المستويات بلهجته الانفعالية المتعالية. تركيا ترفض بشدة دخول قوات الحشد الشعبي.
وقوات «بي كاي كاي» إلى الموصل بدوافع تتعلق بأمنها القومي، وهي مصرة على الاشتراك في المعركة دون التنسيق مع الجانب العراقي لمنع حدوث ذلك، فقد فرضت وجودها باشتراكها بالعمليات الجوية لقوات التحالف الدولي وفي بعض العمليات البرية بوساطة مدفعيتها، وهناك ما يدعو لتوقع المزيد من التصعيد بعد تصريحات رئيس الوزراء التركي عن عزم بلاده إقامة منطقة آمنة في نينوى خالية من داعش، ومن «بي كاي كاي».
وتبقى الإشكالية الأكثر خطورة هي تهميش عشائر المنطقة، وتقزيم دورها في المعركة، وما لذلك من تداعيات على مستقبل المدينة بعد التحرير، فالتعهدات الحكومية لهذه العشائر بالتسليح والمشاركة لم تتعد كونها مجرد تطمينات لم تسفر عن شيء يتعدى إشراك نفر ضئيل منها استكمالاً لديكور المعركة.
وهذا في الحقيقة يعيد تكريس ظاهرة رُصدت في المدن الأخرى، التي تحررت من داعش، وهي عدم ثقة المؤسسة الحاكمة صاحبة القرار بأهالي المدن والمناطق التي خضعت لاحتلال تنظيم داعش، ما يثير المخاوف حول انسحاب هذا التهميش لمرحلة ما بعد التحرير.