يتيماً من أبيه، وُلد هنغولا ضامراً بحجم كف اليد، بذل الطبيب كل ما في وسعه أن يسعفه، فحَقْنه بالسوائل المغذية والتنفس الاصطناعي لمنحه فرصة أكبر للحياة، كان حليب صدر أمه يذهب هدرا يقطر بعيدا عنه لأن أمعاءه غير مكتملة النمو غير قادرة على استقبال أي غذاء طبيعي، كانت تبكي من صدرها كلما رأت هنغولا الصغير وهو يصارع الموت من أجل البقاء وهو الذي لم تمنحه الحياة سوى حركة يديه الصغيرتين الرقيقتين يقبضهما ويبسطهما بقوة طفل كامل النمو، وأنفاس تضرب وتدفع رئتيه وتسحبهما كأنه للتو قد أخرج من الغرق

. فثمة خلل وظائفي كبير في الأعضاء غير المكتملة والحجم الكلي لجسمه الضامر، فالساقان هزيلتان قصيرتان كعقلة إصبع والقدمان بحجم ظفر، استعجلت عليه الدنيا فخرج نصف بشر.

تشبث هنغولا بالحياة أو لبراءته تشبثت به الحياة، وبعد شهرين في خداجه بدت عليه ملامح بشرية ولكنها ما زالت نسبياً قزمية إلا يداه فقد كانتا طبيعيتين، وبأظافر تنمو متسارعة وكأنها تمتص جميع الكلس في الجسد، وقد اضطرت الممرضة إلى قصّها باستمرار خوفا عليه منها. أخذته أمه في حضنها لأول مرة بعد فراق إذ لم يُسمح لها إلا بمشاهدته عن بعد وبلا لمس.

استأجرت الأم الأرملة لهنغولا مُرضعة حلوب عُرف عن أهلها أبا عن جد أنهم أقوياء وفحول لا يُشق لهم غبار في الشجاعة والقوة والذكاء، وكانت المرضعة تأخذ سعرا مضاعفا بمدة أقل في الرضاعة. ترضعه وتغني أغنيتها الشهيرة «في حضني اليوم نسمة وغداً إعصار، في قلبي موجة وهنغولا بَحّار».

كبر هنغولا قليلا، ونما جسمه ليلحق بقبضة يديه الرقيقتين، أمسى دقيق الجسم حتى يُكاد لا يُرى، فبدا من بعيد في زِيّه المدرسي كعود قصب السكر الأخضر المغروس يقاوم الريح يميل ولا ينكسر. ولطالما استهزأ بجسمه أقرانه ما وصفوه بالشبح وبالأفعى وتغوّلوا عليه تهكماً وبطشاً.

لم تطأ قدمه البحر نهاراً، كان يذهب إلى الشاطئ ليلاً كي لا يرى أطفال الحي بروز عظام صدره ونتوء مفاصله، كان يعوم خفيفاً كريشة طافية وسرعان ما تعلم السباحة دون أن يراه أحد. تحدى الليل والبحر معاً.

فغدا سباحا ماهرا يحس بالموج أكثر من أن يراه. وغدا الشباك الضيّق في غرفته أفق الحياة والحرية الأرحب، وخلاصه من فضول الناس ونظراتهم المُقِيّدة والشفوقة ولسان حالهم الذي ينمّ بأن هذا الجسد النحيل الضعيف آيل للاختفاء والذوبان.

وعلى لوح من الخشب الأصم رفع هنغولا قامته وأحس أنه قد حلّق عالياً كالطائر الحزين وروّض البحر وجرّ إليه الشاطئ والقرية ومن فيها، اعتراه إحساس بالقوة والأمان والإثارة لم يحس بها منذ ولادته، فمن اعتلى موج البحر حظي بالقوة والثقة. ها هو هنغولا يموج مع البحر يستدني البعيد بسرعة الموج، ويتأمل القمر الذي يتبعه دون خيبة أمل كما هي في البشر.

خفيفاً على البحر، يراقص الموج بدأ يهزج ذات الكلمات «في حضني اليوم موجة وغداً إعصار، في قلبي نسمة وهنغولا بَحّار». لسنوات كان البحر صديق هنغولا الوحيد يغازله من موجة إلى أخرى، يمسح عنه بؤسه ووحدته النهارية، وفي كل ليلة يولد من جديد.

ذات صباح شتائي عاصف وريح عاتية علا الموج وثار البحر، فمن السماء المطر ومن البحر الطوفان والريح تقتلع كل ما يقف في طريقها، حوصرت القرية، وأنقذ ما أنقذ من التلاميذ في المدرسة حيث أولياؤهم هرعوا مسرعين لنجدتهم، تأخر هنغولا لأن طوفان البحر أهون عليه من تدافع الأطفال الهاربين من المياه الجامحة.

وما زالت المياه تتدفق كغول أخطبوطي مترامي الأطراف. كانت المرة الأولى التي يسبح فيها هنغولا نهارا بلا صحبة صديقه القمر، كان آخر من خرج من المدرسة وكانت في استقباله أمه تتمتم بذات الأغنية أملا في أن يفلت منها هذه المرة كما أفلت منها وهو رضيع خداج.

خلال دقائق عمت مياه البحر بملحها وأسماكها ورملها القرية. ووسط ذهول الناس وفرحهم بنجدة أبنائهم، علا صراخ امرأة من بعيد لنجدة ولدها، إلا أن الجميع منعها لأنه دخولها المدرسة بمثابة انتحار بالغرق، فمن يقوى على مجابهة هذا الكم الهائل من المياه الهادرة.

أدرك هنغولا أن المستغيثة هي أم زميله اللدود ضعيف البصر والأخلاق، أفلت هنغولا من يد أمه وركب موجة متدفقة أعلى سور المدرسة، وخفيف كريشة دخل الصف من نافذته الضيقة وأنقذ زميله وقد بلغت المياه حنجرته.