جيّد أن يحظى لبنان أخيراً برئيسٍ للجمهورية بعد فراغٍ رئاسي دام لأكثر من عامين، وما كان يعنيه هذا الفراغ من مخاطر دستورية وأمنية على الوطن وكل مؤسّساته، وأيضاً على معنى «الوجود المسيحي» في الشرق العربي. وجيّد طبعاً أن يكون الرئيس الجديد هو العماد ميشال عون وما يمثّله من تيّار سياسي وطني توحيدي.

جيّد هذا كلّه، لكن هل هذا الانتخاب والتوافق بشأنه بين بعض الأطراف السياسية اللبنانية، هو مقدّمة لبناء لبنان جديد، أم إنّه سيكرّس - من جديد - الحالة الطائفية المريضة في لبنان، والتي جعلت منه مزرعةً لا وطن؟!.

إنّ لبنان يشكّل «حالة نموذجيّة» فريدة في المنطقة العربيّة. فهو كان، قبل بدء الحرب الأهليّة في 13 أبريل 1975، نموذجاً للعرب في ممارسة الحياة السياسيّة الدّيمقراطيّة، والتّعدّدية الحزبيّة، والانفتاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولمجتمع الحرّيات العامّة بشكلٍ عام.

لكن فيما بعد انكشفت مساوئ هذا «النّموذج اللّبناني» وما كان فيه من أمراضٍ طائفيّة، هدّدت الجسد اللبناني أكثر من مرّة بخطر الانتحار الداخلي أو القتل المتعمّد من الخارج.

ودارت الأعوام والأحداث في لبنان حتّى رست على صيغة اتّفاق الطائف عام 1989، والتي أثمرت وفاقاً لبنانيّاً مدعوماً بوفاق دولي/‏عربي على إعادة إحياء التجربة اللبنانيّة القديمة بطبعة جديدة منقّحة!

ما يحدث في لبنان هو أكبر من لبنان نفسه. فأطراف إقليمية ودولية عديدة وظّفت، طوال العقود الماضية، أرض لبنان وصراعاته المحلية من أجل مشاريعها الخاصة و«حروبها المفتوحة»، لكنّ ذلك ما كان ليحدث لولا تعامل بعض اللبنانيين (كما الأطراف الإقليمية والدولية) مع لبنان بأنّه «ساحة صراع» وليس وطناً واحداً لكلّ أبنائه.

ورغم شغف اللبنانيين بمتابعة التطورات الدولية، وبقدرتهم المتميّزة على التحليل السياسي الذي يربط أصغر قضية محلية بأبعاد دولية كبرى، فإنّ أفعال وسلوك بعضهم لا يخرج عن الدائرة الضيّقة للطائفة أو المذهب أو المنطقة. فتتكرّر المأساة في كلّ حقبة زمنية، طالما أنّ جذور المشكلة كامنة في العقلية الضيّقة.

ربّما تفاءل البعض بطبيعة «تعدّد الطوائف» في خنادق التحالفات المحلية اللبنانية، لكن الصحيح أيضاً أنّ المراهنين على إشعال الساحة اللبنانية كانوا يريدون حروباً أهلية لبنانية وليس حرباً واحدة.. يريدون الصراعات بألوان سياسية، بينما واقع الحال هو صراع القوى الطائفية والمذهبية.

هناك اتفاق بين كل القوى اللبنانية على الإشادة بدور الجيش اللبناني الآن، وبحكمة ووطنية قيادته، وفي حرص المؤسسة العسكرية على ضبط الأمن عموماً في لبنان دون المسّ بحقّ حرّية التعبير بأشكاله كافّة، بعد أن كان الجيش اللبناني، قبل العام 1990، بؤرة صراع داخلي لبناني وشهد في فترات الحرب انقساماتٍ حادّة.

أيضاً، قبل عام 1990، كان غائباً عن العقيدة العسكرية للجيش اللبناني أيّة مفاهيم لماهيّة العدوّ رغم أنّ إسرائيل قامت عام 1968 (وقبل وجود أي عمل فلسطيني مسلّح على أرضه وقبل وجود أي قوات سورية أو أي مجموعات عسكرية حزبية) بالاعتداء على مطار بيروت.

حيث دمّرت إسرائيل كلّ الطائرات المدنية اللبنانية دون أيّ ذريعة أو سبب آنذاك سوى سعي إسرائيل لتحطيم الاقتصاد اللبناني، وإدخال لبنان عنوةً بأتون الصراع معها بعدما تجنّب لبنان ذلك في حرب عام 1967 فنفذ بجلده، لكن لم ينفذ بلحمه وعظمه ودمه كما أثبتت بعد ذلك تداعيات الأمور.

ثمّ حصل «اتفاق الطائف» في العام 1989 ليرسم هدفاً للقوات المسلحة اللبنانية: (يجري توحيد وإعداد القوات المسلحة وتدريبها لتكون قادرةً على تحمّل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة العدوّ الإسرائيلي)، كما ورد في الفقرة (ج) من البند الثاني من وثيقة الطائف. وكان هذا النص أمراً مهمّاً جداً على صعيد بناء المؤسسة العسكرية اللبنانية، لكن هذا البناء السليم عسكرياً لم يقترن ببناء سياسي جيّد لتنفيذ «اتفاق الطائف».

حاولت أطراف أن تجعل من نفسها ممثّلاً لفئة أو طائفة أو منطقة، فاستمرّت العقلية نفسها 1975، ونشأ جيل ما بعد الحرب في بيئة سياسية فاسدة معتقداً أنّ المشكلة هي في «الآخر» اللبناني، لكن لم يدرك هذا الجيل الجديد أنّ مشكلة وطنه ومشكلة مستقبله هي في التركيبة السياسية التي تتولّى ترميم البناء السياسي بعد كل أزمة، والتي ترفض التخلّي عن امتيازات النطق السياسي باسم هذه الطائفة أو المذهب أو المنطقة.

حبّذا لو أنّ الشباب اللبناني يتحرك للمطالبة بحرّيته من الزعامات الطائفية والمذهبية، حبّذا لو أنّ الجيل اللبناني الجديد يطالب بسيادته على القرار السياسي اللبناني المتعلّق بمستقبله ومستقبل وطنه، وذلك من خلال بناء مجتمع لبناني جديد لا طائفي، يكون خميرتَه جيلٌ جديدٌ متحرّرٌ من الإرث السياسي التقليدي القابض على لبنان لعقودٍ طويلة.

تُرى، لماذا تُمارَس الديمقراطية في لبنان فقط من خلال التوريث السياسي القائم على الحصص الطائفية والمذهبية؟

ثمّ لماذا «تنتقل البندقية من كتف إلى كتف» على جسم هذا الزعيم أو ذاك، وتتغيّر تحالفاته الإقليمية والدولية، لكن لا يجوز عنده تغيير النظام السياسي الطائفي؟ أليس حالٌ كهذا هو المسؤول عن الاستقواء بالخارج كلّما دعت الضرورة؟ أوَليس ذلك هو السبب الأول للتدخّل الإقليمي في الساحة اللبنانية؟ فعطب الدّاخل هو الذي يسهّل دائماً تدخّل الخارج.