ما إن نرى عَلَم البلاد يُرفرف في مناسبة وطنية ونسمع نشيدنا الوطني، ثمة شيء ما خفيّ ووريدي وسلس يدغدغنا حسّياً وعقلياً وعاطفياً، فنمتلئ شعوراً بالفخر قد يصيبنا بالقشعريرة والامتلاء، وفي تلك اللحظات يستدعي المرء شعوره من محيطه الجمعي عبر الرمز المكثف ومعنى الوطن المُرَمّز برؤية العلم وسماع النشيد. إنها مثال واضح للهوية الوطنية التي تمنح الأشياء نبضها ومعناها بعمقٍ شعوريٍ وإضافي.
والهوية نكتسبها عبر مؤثرات ثقافية وسلوكية يومية وتراكمية تجعلنا كثيري الالتصاق والاتساق مع محيطنا نؤثر ونتأثر به فننسج العلاقة التفاعلية لتتكون شخصيتنا الاجتماعية والنفسية كأفراد على رقعة المجتمع بغض النظر عن حجمه.
وقد يكون التفاعل أفقياً ذا صلة بالطبقة وهو ما يتحكم به الجانب الاقتصادي وأنماط العيش، أو عمودياً ينتشر بين فئات وطبقات المجتمع، سيّما إذا كان وطنياً وتراثياً وثقافياً متأصلاً أبا عن جد، تجاوز مفهوم التأثير الاقتصادي وفرض نفسه في نفوس أفراد المجتمع، فغدا أحد أسباب الوحدة والقوة، حيث يتوافق الجميع على اختلاف طبقاتهم.
وما يثري الحياة في هذا العالم أن ثمة تنوعاً في العادات والتقاليد والثقافات والمعتقدات والإرث الحضاري لدى الشعوب، الأمر الذي معه تشكلت هُويّات وقيم متنوعة ومختلفة إلى حد التناقض في الحكم والتعامل معها.
فالعيب والعار لدى مجتمع ما في قارة ما، قد يكون فضيلة أو على الأقل ليس عيباً لدى مجتمع في بلد آخر في قارة أخرى، بل وقد يكون جزءاً من الحياة والسلوك اليومي الذي على أساسه يرى الناس أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من محيطهم.
ففي المدن الشاطئية تجد نمط حياة مختلفاً في المأكل والملبس والسلوك والتفاعل الاجتماعي عنه في المدن الحبيسة المحرومة من البحار والأنهر. فالجغرافيا والطبوغرافيا لها تأثير كبير في سلوكيات المجتمعات وهوياتها، فابن الوادي غير ابن الجبل غير ابن السهول الممتدة.
ما يفرحنا أو يثيرنا أو يغضبنا ليس بالضرورة أن يكون له ذات التأثير في مجتمعات أخرى، إذ إن المجتمع هو وليد ثقافته وعاداته ومعتقداته، وهذا ما يمكن تسميته الهوية المجتمعية.
فما الذي يجعل العويل والبكاء والندب واللطم والصراخ تعبيراً عن الحزن، في حين أن مجتمعات أخرى تُوقِد الشموع وتعزف الموسيقى وتذرف دموعها هزجاً، وأخرى ترقص وتندب فقيدها بالرقص والغناء على أمل أن تنقل له البهجة، بل إن بعض المجتمعات تقيم احتفالاً بالموتى، وفي أخرى ينبشون القبور ويرقصون مع موتاهم كما هو الحال في مدغشقر.
ولأي هوية ثمة منابع تثريها وتقودها وتطورها على مر السنين، فاللون والرائحة والصوت واللغة والمعتقد والطبيعة المحيطة ومواردها، كلها جميعاً تتقاطر إلى مشاعر وعقل الناس بطريقة تفاعلية عميقة لتشكل هوية المجتمع. وقد كانت الهوية قديماً تتطور في سياق تراثي وثقافي يمتد من جذوره، أما مع ثورة تكنولوجيا الاتصال والإعلام والمواصلات، وسرعة التفاعل والتأثير والتأثر بالآخر.
وعلى الرغم من خطر تشوهها فقد أصبحت الهوية أحد منابر الاعتزاز والافتخار للدول والمجتمعات، فانتشر الترويج للفلكلوريات والتراثيات باعتبارها الوجه الناصع والصوت الأعلى لهوية أي مجتمع، وهي المتراس الآمن أمام ابتلاع الثقافات.
إلا أنه في المقابل ولأسباب التداخل الاقتصادي الجامح الذي وَظّف التكنولوجيا الحديثة وسخرها لخدمة التجارة السريعة عابرة القارات دون الاهتمام بالثقافة والبيئة وغيرها من أصول الهوية، وقد تأثرت سلباً بعض الدول النامية الاستهلاكية وخصوصاً تلك البلدان التي لا تهمها أخلاق الصفقة بقدر ما يهمها الربح السريع، ما نتج عنه نضوب كل منابع الهوية الثقافية، فتهمّش التراث، وغابت الثقافة والفنون الأصيلة.
وأصبحت مجتمعاتها حيادية غير متحيزة للغتها، وأصولها، ومعمارها.
الهوية، وطنية أو مجتمعية، أو حتى أمميّة لا يمكن أن يكون لها معنى وتأثير إلا بالشراكة في القيم وتشرّب دلالتها، ليس بالعقل وإنما بالشعور والوجدان، حينها فقط يتصالح الفرد مع ذاته وينسجم مع مجتمعه، عندها فقط، يكون الانفتاح إضافة عالمية وتفاعلاً ثرياً وليس انهزاماً وذوباناً أو شرخاً نفسياً.