على الرغم من أن فترة الحكم السياسية والعسكرية الإسلامية لقرطبة امتدت على مدى خمسة قرون تخللتها فترات طويلة من الضعف وشبه الفوضى، إلا أن مساهمتها الثقافية قد استمرت وربما وصلت إلى ذروتها بعيد فترة تراجعها النهائي.
وخلال ذلك العهد كله، لم تنافسها سوى مدينتين هما بغداد والقسطنطينية. المدن الغربية مثل لندن وباريس لم تحظ بالترف الذي تمتع به أبناء قرطبة كما في الشوارع المعبدة والحمامات العامة والمرافق التعليمية.
ويقول دوزي، أعظم المؤرخين المحدثين الذين كتبوا عن الأندلس، في كتابه «تاريخ مسلمي إسبانيا» عن عبد الرحمن القرطبي: تشير التقديرات إلى أنه في عام 951 كانت في خزينة قرطبة 20 مليون قطعة ذهبية. وسيرت حالة البلاد الوضع المزدهر للخزينة وازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة والفنون والعلوم جميعها.
وكانت قرطبة بسكانها الذين وصلوا إلى نصف مليون نسمة وثلاثة آلاف مسجد وقصورها المنيفة ومنازلها التي بلغ عددها مئة وثمانية عشرة ألفاً وحماماتها الثلاثمئة وضواحيها الثماني والعشرين لا تفوقها إلا بغداد، وهي المدينة التي كان أهل قرطبة يحبون أن يقارنوا مدينتهم بها. وكانت قوة الحاكم عبد الرحمن الثالث هائلة.
حيث مكنه أسطول رائع من مقارعة الفاطميين، أصحاب إمبراطورية البحر الأبيض المتوسط، وأمنت سيطرته على سبتة.
وسعى أكثر الملوك تباهياً إلى التحالف معه، وبعث إمبراطور قسطنطينية وألمانيا وإيطاليا وفرنسا بالسفراء إليه. وبعيداً عن روعة حياة بلاطها، اشتهرت قرطبة بفنونها وحرفها اليدوية. وكانت المنتجات المعدنية والخزف والزجاج تنتج كلها في ورشها وتحظى بالتقدير الكبير في الخارج. ونسجت منسوجات بديعة ليس لتلبية الطالب المحلي فحسب.
وإنما للتصدير إلى البلاطات المسيحية، وفي أوائل القرن الثاني عشر تبنى النساجون الأوروبيون التصميمات الإسلامية وقلدوا في وقت لاحق الخط العربي في الزخارف التي أنجزوها.
واشتهرت قرطبة أيضاً بعلب حفظ الجواهر العاجية المنحوتة بشكل معقد، التي يمكن العثور على نماذج منها في كثير من متاحف العالم بما فيها متحفا فكتوريا وألبرت في بريطانيا. وكانت كل أنواع الأعمال الجلدية المزخرفة مما اشتهرت به قرطبة. ومن هنا أتت عبارات مثل «غردفان» للدلالة على أنواع الجلود الناعمة.
وطارت شهرة قرطبة على وجه الخصوص باعتبارها مركزاً للتعلم، ويتحدث الكتاب العرب عن وجود 37 مكتبة فيها وعدد كبير من متاجر بيع الكتب و800 مدرسة وإحدى أكبر جامعات العالم.
ونصح رجال العلم الغربيون مثل أديلارد أوف باث وفرانسس بيكون طلابهم بالتوجه إلى أماكن إسلامية للتعلم مثل قرطبة وتوليدو. وحاكم قرطبة الثاني ابن عبد الرحمن الثالث كان من الرعاة البارزين في التعليم وحاز في قصره على مكتبة تضم 400 ألف كتاب جمعت من مكتبات مدن الشرق العربي.
وفي وقت كانت أوروبا تجتاز فيه عهداً ظلامياً وكان التعليم مقتصراً بشكل أساسي على البلاطات والأديرة انتشر العلم في جميع أنحاء الأندلس، وكان متاحاً للأغنياء والفقراء وأيضاً للرجال والنساء.. ولعبت الكثير من النساء دوراً بارزاً في الحياة الثقافية للمدينة. وتم توظيف حوالي 170 ناسخة في سوق كتب قرطبة. وقادت قرطبة العالم الغربي في العمارة والطب والفلك بل والموسيقى.
وفي الموسيقى تفوقت قرطبة بشكل ملحوظ، ويرجع ذلك إلى الموسيقار الفارسي زرياب الذي هرب من بلاط هارون الرشيد في بغداد. ولاقى ترحيباً في قرطبة. زرياب أصبح أيضاً منسقاً لصرعات الملابس وأساليب السلوك في البلاط ونسب إليه إدخال نسق الأطباق في الوجبات حيث يبدأ المرء بالحساء وينتهي بالحلوى. وأثر زرياب في تطور الموسيقى في الأندلس. وأدخل الوتر الخامس الذي نسب إليه الغيتار الحديث.
وأفاد الحكم الإسلامي في الأندلس أيضاً المناطق الريفية حيث جلب العرب معهم اهتماماتهم ومهاراتهم في الزراعة. وتفوقوا في الري وطوروا أعمالاً أقامها الرومان وأدخلوا زراعة البرتقال إلى الأندلس وكذلك الأكثر جاذبية مثل الرمان ونبات الهليون الذي لاتزال إسبانيا تشتهر به حتى اليوم.
ويصف كاتب عربي ينتمي إلى ذلك العهد القرى التي تحظى برعاية بالغة بأنها «نجوم في سماء زيتونية».