لقد فعلها ترامب، واجتاح »الفيل« الجمهوري البيت الأبيض، وقد صرح أحد الديمقراطيين المنهزمين في الانتخابات الأميركية قائلاً: »ماذا أقول لأولادي، يا لها من مفاجأة ويا لها من كارثة«.

يحق لهذا الديمقراطي أن يتفاجأ، ولكن لا يحق لأي منهزم أن يقول إن فوز منافسه »كارثة«، لأسباب عدة، أولها أن هذا »الفيل« ترامب الرأسمالي وإمبراطور العقارات هو رمز صارخ للرأسمالية الأميركية التي آمنت بحرية تحرك رأسمال المشروع في خدمة البلاد، وأنها هذه الرأسمالية هي أساس الحرية وتطور المجتمعات والبشرية.

إذاً، بالتأكيد لن يكون فوز هذا الرأسمالي غريباً على مجتمع يعتمد هبوطه وصعوده على ارتفاع وانخفاض مؤشرات سوق الأسهم والعلاقات الاقتصادية وتوحش الشركات الكبرى، وليس على الثبات المطلق للقيم الدستورية، فالقيم أمام الانهيار الاقتصادي وزيادة الجشع تتحول إلى خيار فردي، أما القيم الجمعية فلتذهب إلى الجحيم، إن تعارضت مع قيمة رأس المال المهدد بالزوال أو بالتراجع.

وما فوز دونالد ترامب إلا مثال واضح على ذلك. فلم يكن الرئيس الرأسمالي الجديد أمل المهزومين أخلاقياً، بقدر ما هو القشة التي يتعلق بها العاطلون عن العمل الذين لم تشبعهم قيمهم يوم جوعهم، ولم تُلحفهم أخلاقهم يوم شتائهم القارس. إن ترامب يمثل أمل التقاء وتعاضد رأس المال الجشع الذي تناثر وتخلخل في الأزمات الاقتصادية المتتالية في السنوات القليلة الماضية.

وقال أحد الديمقراطيين متندراً على حملة ترامب الانتخابية »إنه يدير حملته باعتبار أن أميركا شركة، وأن منتخبيه موظفين، وأن منتخبيه المحتملين يصطفون في طوابير العمل في هذه الشركة«، ولم لا، فهو العمل الناجح في مجتمع يحكمه الدولار وجبروت رأس المال.

وما يُميّز الرئيس الجديد عن الرؤساء السابقين من الحزبين أنه أبداً لم يتشدق بالقيم والأخلاق الأميركية كما فعل من قبله الرئيس السابق أوباما، وبيل كلينتون، وبوش الابن الذي كان يعتبر نفسه مرسلاً من الله لتحقيق العدالة في الكون وإحقاق الحق ولو بالغزو والقوة.

إذاً، المجتمع الأميركي الآن سيعتنق بوضوح الرأسمالية دون زيف أو خداع أو تغليف بالورق المُزيّن بقلوب العشق الإلهي وإشارات الحب العالمي والتضحية من أجل أطفال إفريقيا والعراق وسوريا وأميركا اللاتينية واللاجئين. فكما قال ترامب، أميركا أولاً، واقتصادها أولاً وأخيراً، المهم الداخل الأميركي أولاً، وقبل كل شيء.

وهذا ما يفعله مديرو الشركات الحكماء في إصلاح شركاتهم. وهكذا تتحول أميركا إلى أكبر شركة سياسية ودستورية في العالم يقودها ترامب المسكون بنفسه، فقيمة البشر لديه تُقاس بقدر ما يكسبون وليس بقدر ما يؤمنون به من قِيَم. فالأخلاق لا تُغيّر من القرار الرأسمالي الحر، المهم نجاح الصفقة، وما تبرعات بعض البنوك والشركات الكبرى ما هي إلا ذر للرماد في العيون وحرفها عن رؤية الجشع المنفلت.

وحتماً سنشهد في المرحلة المقبلة تَغيّراً في السياسة الأميركية، تعتمد بصورة واضحة على المصالح التي تصبّ في النمو الاقتصادي السريع بقفزاته الواضحة التي تؤثر في مستويات الدخل والتوظيف وخفض نسبة البطالة. إذاً الاقتصاد أولاً وليس القِيَم.

ولكن السؤال المخيف: ماذا لو فشل رمز الرأسمالية الحديثة سيد البيت الأبيض الجديد في تنفيذ وعوده الاقتصادية التي لأجلها فغر الرأسماليون الجشعون أفواههم، وعليها أسالت الطبقة الوسطى لعابها، ولها زقزقت أمعاء الفقراء! وهي معادلة اقتصادية تستدعي التوازن بين الطبقات الثلاث.

فقد تصل نتائج الرأسمالية إلى طبقة رؤوس الأموال فتكون متوحشة لتزيد من خزائنهم، ولكنها إذا لم تصل نتائجها بشكل سريع وملموس ومتوازن للطبقة الوسطى والفقيرة، فإنها ستكون المسمار الكبير الذي يُدق في نعش الرأسمالية الأميركية الحديثة، لاسيّما وأن ترامب يمثل نموذجها المتكامل والناجح وعرابها في السنوات القليلة المقبلة.

أمامنا 4 سنوات، من اللغط، والجنون، والمفاجآت والجدليات التي يقودها الرئيس الأميركي الرأسمالي الجديد، ولأنه صاحب النرجسية العالية الذي لا يقبل الخسارة في أي منازلة على مدار حياته.

وقد توّجَها بالفوز بكرسي أعلى منصب قوة في العالم، فهل سينجح في فرض الرأسمالية الأميركية كنموذج لنجاح واستدامة تطور الإمبراطورية الأميركية الغربية. وإذا نجح فقد ضمن لأميركا استقرار القوة العظمى ومتانتها من الداخل.

وعلى الأرجح أنه سينجح، لأن أميركا هي بالفعل شركة طُليت جدرانها الداخلية بأوراق الجدران المزينة بأوراق الدولار بفئاته المختلفة، وفي ظلال زواياها البعيدة عُلقت بعض عبارات القِيم المقتبسة من المشاهير والقديسين. وعلى الأرجح في عهد ترامب المشاكس العنيد والصريح، لابد أن تنام هذه العبارات المُؤطّرة في مستودعاتها، لأن الدولار يأتي أولاً قبل أميركا القيم والأخلاق.