للاقتصادي البريطاني المعروف «كينز» عبارة مشهورة عن الاقتصاديين عندما قال: «سيكون من الرائع إذا تمكن الاقتصاديون من أن يجعلوا أنفسهم على مستوى من التواضع والكفاءة بمستوى أطباء الأسنان» فالاقتصاديون ـ أو على الأقل عدد غير قليل منهم ـ يبالغون في معارفهم، وذلك عندما يتعلق الأمر بتفسير الواقع وبوجه خاص عندما يتنبؤون بالمستقبل.

ويتأكد هذا الشعور عندي كلما قرأت أو استمعت لحديث ممن يطلقون على أنفسهم لقب «الخبير الاقتصادي»، وحيث يتحدث هذا الخبير وبثقة تامة - تقريباً في كل شيء يمت بصلة إلى الاقتصاد من قريب أو بعيد. والحقيقة أن الاقتصاد هو جزء من حياتنا سواء تعلق الأمر بالحكومات أو الأفراد.

فكل فرد يتخذ كل يوم العديد من القرارات الاقتصادية، سواء تعلق الأمر بالشؤون العادية والمتكررة من شراء وبيع وإيجار أو ارتبط الأمر بالقرارات المهمة بالاستثمار أو الاقتراض، ولا يختلف الأمر بالنسبة للحكومات والتي تواجه باستمرار مشكلة تحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات، والاختيار بين ما هو مناسب لتحقيقه الآن وما يمكن تأجيله لفترة مقبلة، وبما يحقق المصلحة العامة.

قواعد الاقتصاد ليست كقوانين الطبيعة: يخضع الاقتصاد لعدد من القواعد التي تبين القرار الاقتصادي السليم، وكل هذه القواعد ليست كقوانين الطبيعة (الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا) فإذا كانت قوانين الطبيعة ثابتة لم تتغير من بدء الخليقة، رغم أننا نكتشف كل يوم أسراراً جديدة كانت خافية عنا.

ولكن تظل هذه القوانين كما هي، ربما مع مزيد من الانضباط، باعتبارها قوانين ثابتة. وهذا على الأقل منذ استقرار الكون بعد «الانفجار الكبير» قبل نحو 14 مليار سنة.

فالإلكترون أو النترون وغيرهما من العناصر لم تتغير خصائصها بمرور الزمن، وإن كنا قد ازددنا معرفة بها. أما قواعد الاقتصاد، ورغم أنها تسعى إلى تحقيق «أكبر منفعة، بأقل تكلفة»، فإن ذلك يمكن أن يتحقق بوسائل مختلفة مع تغير الزمان والمكان.

فإذا زاد الاستهلاك في بلد فقير ومتخلف، فإن فرص الادخار سوف تتناقص وبالتالي إمكانات الاستثمار والتقدم. ومن هنا كانت نظرية التقليديين منذ آدم سميث بالدعوة إلى زيادة الادخار، وبالتالي الاستثمار لتحقيق النمو المطلوب.

ولكن زيادة الاستهلاك في اقتصاد صناعي متقدم يتمتع بقدرات إنتاجية كبيرة ومرنة، تؤدي إلى زيادة الطلب، ومن ورائها زيادة استغلال الطاقات الإنتاجية، وبالتالي النمو الاقتصادي. وهذا ما جاء به كينز من النصف الأول من القرن الماضي. فالادخار هو سبيل التقدم في الدول النامية في حين الاستهلاك هو محرك الاقتصاد في الدول الصناعية.

البيئة الاقتصادية تتغير: إذا كانت القوانين الطبيعية لا تتغير، وإن كانت تزداد دقة وعمقاً مع التطورات العلمية، فإن قواعد الاقتصاد تتطور مع ما يحدث في البيئة من تطورات. وقد عرف الإنسان تطورات مهمة أدت إلى تغيير القواعد الاقتصادية المناسبة لكل زمان ومكان.

فما يصلح لبيئة اقتصادية معينة، قد لا يكون مناسباً لبيئة اقتصادية مختلفة. ويمكن أن نلخص أهم أسباب اختلاف البيئة الاقتصادية في ثلاثة عناصر أساسية: تقدم العلوم والتكنولوجيا واكتشاف المواد الأولية وتزايد القدرة على استغلالها والنمو السكاني.

الحلول الاقتصادية تختلف باختلاف الظروف: أشرنا إلى أن الاقتصاد، وإن لم يخضع لقوانين الطبيعة الثابتة، فإنه يستنير بقواعد اقتصادية، تبين الخيارات المتاحة في ظل الأوضاع الاقتصادية القائمة.

فما يصلح لاقتصاد زراعي بدائي لا يصلح لاقتصاد متقدم، وفي الوقت نفسه فإن القرارات الاقتصادية تتوقف على مدى توافر المواد الأولية وخاصة مصادر الطاقة، فإذا ندرت هذه الموارد، فإن الاقتصاد يضطر إلى الاعتماد على الاستيراد.

وهذا هو ما جعل اليابان تبدأ التصنيع من أجل التصدير، على عكس الولايات المتحدة التي بدأت التصنيع من أجل السوق المحلية لما تتمتع به من وفرة هائلة في المواد الأولية ومصادر الطاقة ولم تتحول إلى التصدير بشكل كبير إلا بعد الحرب العالمية الثانية.

الاقتصاد ليست فرعاً واحداً: يتطلب تعقد الاقتصاد الحديث إلى أن ينقسم هذا الاقتصاد إلى العديد من الفروع والتخصصات. فهناك الاقتصاد السياسي، وهناك الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي، وهناك تاريخ الفكر الاقتصادي، وعلم المالية العامة، والنقود والبنوك، والتحليل المالي، والأسواق المالية، والحسابات القومية، واقتصادات السكان، ... والقائمة طويلة.

ولا تخفي أهمية الاقتصاد المعاصر في حياة المواطنين. وهناك دائماً قرارات تتخذها السلطات المالية والنقدية والتي تؤثر على حياة المواطنين.

ولذلك تحظى القرارات الاقتصادية عادة باهتمام المواطنين، لأنها تؤثر على حياتهم بشكل مباشر. ومن الطبيعي، بل ومن المفيد، أن تتعدد الآراء وتناقش البدائل لأن معظم القرارات الاقتصادية تؤثر بشكل أو بآخر على أوضاع المواطنين في الحاضر والمستقبل المنظور.

هذا طبيعي ومفهوم ومطلوب. ولكن أن يخرج علينا الكاتب بلقب «الخبير الاقتصادي»، بما يعطي الانطباع بأن ما يقوله ليس مجرد رأي شخصي، بل هو رأي «العلم». والسؤال هو كيف يمكن أن يصبح الفرد خبيراً اقتصادياً؟ هل الحصول على درجة جامعية في كلية التجارة أو الاقتصاد كافية، أم الأمر يتطلب العمل في البنوك أو بأعمال المحاسبة.

وهل هذا الخبير مؤهل للحديث عن السياسات النقدية بقدر معرفته بأوضاع الأسواق المالية العالمية؟ تعدد الآراء مطلوب ومفيد. وقوة الرأي تعتمد على سلامة الحجة ودقة المعلومة المعروضة، أما لقب المتحدث «خبيراً» كان أم «هاوياً»، فلا يضيف كثيراً، فالعبرة بسلامة التحليل ومنطقيته، وما يستند إليه من بيانات وأدلة.