يتعرض المسيحيون العرب لحملات إساءة وتهجير وقتل في أكثر من بلد عربي، وهناك جماعات تحمل رايات دينية إسلامية تقوم بأعمال قتل وتدمير وتهجير لقرى مسيحية عربية، كالذي حدث في العراق وسوريا، وكما يحدث أحياناً في مصر ضد المسيحيين الأقباط وكنائسهم.
ربما من المهم أن يدرك العرب كلهم، بغض النظر عن ديانتهم وطائفتهم، أن المشروع الرامي إلى تقسيم الكيانات العربية الراهنة وإقامة دويلات جديدة في المنطقة على أساس ديني ومذهبي وإثني، يتطلب الشروع أولاً بتهجير المسيحيين العرب لما يعنيه ذلك على المستوى العالمي من «مشروعية» لفكرة وجود دول على أساس ديني، كما هو المطلب الإسرائيلي حالياً من العالم كله، ومن العرب والفلسطينيين خصوصاً، بأن يحصل الاعتراف بإسرائيل كدولة دينية يهودية.
هذا الأمر، لو آلت الأحداث إليه، فستكون المنطقة العربية عبارة عن دويلات دينية وإثنية متصارعة فيما بينها، ولكن تدور كلها في الفلك الإسرائيلي الأقوى والأفعل والأكثر استفادة من هكذا مشروع للخرائط الجديدة في المنطقة.
لذلك، فإن التمييز بين ما تريده إسرائيل وبين ما تقوم به بعض الجماعات بأسماء إسلامية لم يعد ممكناً، بل إن هذا يطرح تساؤلات خطيرة عن طبيعة هذه القوى ومدى ارتباطها بأجهزة المخابرات الإسرائيلية، التي سبق لها أن دست قيادات في العديد من المنظمات العربية والإسلامية، تماماً كما تفعل إسرائيل حتى مع أصدقائها في العالم حيث شبكة العملاء الإسرائيليين تصل إلى مستويات عالية.
وتقترن بهذه الممارسات الإجرامية السيئة ضد المسيحيين العرب، مفاهيم وأفكار تتحدث عن المسيحيين العرب وكأنهم غرباء عن هذه الأمة وأوطانها، أو أن حالهم كحال الأقليات التي وفدت لبلدان العرب من جوارهم الجغرافي مثل الأرمن، علماً بأن الوجود المسيحي العربي قديم، كما هي حال مصر والعراق وبلاد الشام.
هاجس الخوف على المستقبل عند المسيحيين العرب ليس وليد الحاضر فقط، وما يتميز به هذا الحاضر من تصاعد في العنف والإجرام الطائفي، وفي حدة الطروحات العصبية الدينية بأكثر من بلد عربي، بل تعود جذوره إلى سنوات بعيدة في الزمن، وقريبة في الاستحضار الذهني، كلما لاحت مشاريع الخطر القائمة في الواقع حقاً أو المنسوجة بالخيال وهماً.
المسيحي العربي يتذكر ما قاله الأجداد عن سنوات الذل أيام حكم الأتراك العثمانيين.. والمسيحي العربي يتأثر بما يردده التحريض الأجنبي من مقولات ودعوات للانفصال بين الأجزاء المكونة لجسم الأمة العربية..
إن الوجود المسيحي على الأرض العربية تزامن مع الوجود الإسلامي لأكثر من ألف وأربعمئة سنة. وذلك وحده كاف ليكون شهادة للاثنين معاً ضد كل دعاة الانفصال أو التذويب أو التهجير.
إن صيغة «المواطنة المشتركة» المتساوية في الحقوق والواجبات ليست «حقاً» للمسيحيين العرب فقط، وليست «واجباً» على المسلمين العرب فقط، بل هي مسؤولية مشتركة فرضتها الإرادة الإلهية التي اختارت الأرض العربية لتكون مهد كل الرسالات السماوية؛ فالحفاظ على هذه الصيغة، امتحان لكل العرب في كيفية الفهم الصحيح للدين وللهوية الثقافية المشتركة، وفي مدى الانتماء الوطني والحرص على أولوية المصالح الوطنية والعربية.
إن ما هو قائم الآن من ممارسات سيئة بحق بعض المسيحيين العرب في عدد من البلدان العربية ليس حصيلة العملاء وأجهزة المخابرات فقط، بل هو أيضاً نتاج الفهم الخاطئ لدى غالبية العرب للدين وللعروبة ولمفهوم وحقوق المواطنة.
فالأمر لا يقتصر على سوء العلاقة بين المسلمين والمسيحيين العرب فقط، بل هو قائم أيضاً بين المسلمين أنفسهم بما هم عليه في عموم العالم الإسلامي من تعدد في المذاهب والأعراق والإثنيات. فلو اقتصرت الظاهرة الانقسامية المرضية الموجودة الآن على مسألة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين حصراً لَصحَ الاعتقاد عندها بأنها مشكلة «الوجود المسيحي العربي» فقط، لكن مرض الانقسام ينتشر الآن في كل خلايا جسم الأمة العربية.
هي إذن بلا شك أسباب متعددة لما نراه اليوم من خوف مسيحي عربي مشترك على الحاضر والمستقبل. بعض هذه الأسباب خارجي مفتعل، وبعضها الآخر عربي داخلي كانعكاس لحال التخلف الفكري والسياسي السائد في هذه المرحلة. لكن حتماً ليست هي مشكلة «حقوق المواطنة» للمسيحيين العرب فقط، بل هي مشكلة كل العرب بمختلف تعددهم الديني والإثني.
مصير الوجود المسيحي في الشرق هو موضوع حيوي مهم يمس وحدة المجتمع العربي، ويطال المداخلات الأجنبية التي سعت ماضياً وحاضراً إلى السيطرة على المنطقة العربية، وإلى تجزئتها ومصادرة ثرواتها وتغيير هُوية بلدانها من خلال شعارات «الحماية الأجنبية للطوائف والأقليات».
المشكلة ليست في مبدأ وجود انقسامات داخل المجتمعات والأوطان، بل هي في انحراف الانقسامات السياسية والاجتماعية إلى مسارات أخرى تُحول الاختلاف الصحي السليم في المجتمع إلى حالة مرضية مميتة أحياناً، كما يحدث في الصراعات الإثنية والطائفية والقبلية.
إن إصلاح المجتمعات العربية أولاً هو السبيل إلى إصلاح الدول والعلاقات بين المواطنين.