يرتاح عامّة الناس إلى تبسيط التصنيفات والخيارات في الأمور كلّها، حتّى في القضايا الدينية. لذلك نرى الآن ازدهاراً كبيراً لظاهرة «الفتاوى» والركون إلى ما يقوله «المفتون»، بدلاً من تشغيل العقل في فهم النصوص. أيضاً، تستسهل المؤسّسات الإعلامية المختلفة، تصنيف الجماعات والتيّارات السياسية في أحد اتجاهين: مع وضد.
لذلك، نشهد حالياً توزيع المواقف السياسية بين إمّا داعمٍ لحكم أو مؤيّدٍ لمعارضة، رغم ما في ذلك التوزيع من إجحاف لمواقف البعض المنتقدة في هذا البلد أو ذاك للحكم وللمعارضة معاً.
هي سياسةٌ اتّبعها أيضاً الكثير من الحكّام وقادة الدول الكبرى تجاه حكومات رفضت نهج التبعية لمعسكر ضدّ آخر. فهكذا كان الحال خلال فترة الحرب الباردة، حيث تعرّضت مجموعة دول «عدم الانحياز»، التي أسّسها في منتصف خمسينيات القرن الماضي عبد الناصر ونهرو وتيتو، إلى محاربة من طرفيْ الحرب الباردة.
وهكذا أيضاً مارست الإدارة الأميركية السابقة خلال حربها على العراق سياسة: «من ليس معنا فهو ضدّنا»، وحينما قسّمت العالم بين «قوى الخير وقوى الشر»، تحت حجّة «محاربة الإرهاب»، ولم يكن مقبولاً الاعتراض حتّى من بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة.
وكان العالم كلّه، وما زال بعضه إلى الآن، يستحسن تقسيم الأحزاب والتيّارات السياسية إلى «يمين ويسار»، كما كانت أيضاً تسميات «رجعي وتقدّمي» سائدة في عقود عديدة من القرن الماضي. وهذه التصنيفات ارتبطت سابقاً بأبعاد اجتماعية واقتصادية، وكانت انعكاساً للصراع الذي دار في القرن العشرين بين التيّارين الشيوعي والرأسمالي.
والذي لم يكن مقبولاً فيه التمايز عن أحد التيّارين. فالاشتراكية الوطنية كانت تُحسب على الشيوعية، حتّى إنِ اختلفت عنها تماماً، كما حدث في تجارب عديدة خارج الفلك الشيوعي.
طبعاً، النشأة التاريخية لتعبير «اليمين واليسار»، ارتبطت بما كان يحدث أيام الملك الفرنسي لويس السادس عشر، حيث كان المؤيّدون لسياساته يجلسون إلى يمينه، بينما يجلس المعترضون إلى يساره.
ونجد بعض الإعلام العربي يوزّع الحركات السياسية العربية إلى مجموعتين، «إسلامي» أو «ليبرالي» دون إدراك أنّ هذه التسميات لا تُعبّر فعلاً عن واقع وعقائد كل الحركات والتيّارات الفكرية العربية. ولا يجوز أصلاً اعتماد تسميات تجعل من الآخر في موقع الضدّ لها.
إنّ قضايا التحرّر والهُويّة القومية والعدالة الاجتماعية ومقاومة الاحتلال ومحاربة الظلم أينما كان وكيفما كان، هي كلّها قضايا إنسانية عامّة، لا ترتبط بمنهج فكريٍّ محدّد. فلا الدين يتعارض مع هذه القضايا، ولا الابتعاد عنه يعني تخلّياً عنها. وهناك أمثلة عديدة عن مجتمعات كافحت من أجل هذه القضايا، لكن اختلفت دوافعها الفكرية ونظرتها لدور الدين في الحياة.
إنّ أساس الخلاف بين التيّارين العلماني والديني، فكريٌّ محض، ولا يجوز إلحاق القضايا السياسية بطبيعة هذا الخلاف. ومن المهمّ أن يبقى الاختلاف قائماً في المسألة الفكرية، وأن يتمّ البحث عن المشترك من القضايا الوطنية والاجتماعية. فالاحتلال الإسرائيلي مثلاً، لا يميّز بين التيّارين في الأراضي المحتلّة، إذ المستهدف هو الفلسطيني.
إنّ الاختلاف الفكري بين الناس، هو ظاهرة صحيّة حينما تحصل في مجتمعات تصون التعدّدية الفكرية والسياسية، وتسمح بالتداول السلمي للسلطة، وباحترام وجود ودور «الرأي الآخر». وهي مواصفات وشروط لمجتمعات تعتمد الحياة السياسية الديمقراطية، وتكون مرجعيتها هي القوانين والدساتير المجمَع على الالتزام بها بين كلّ الأطراف.
فلا ينقلب طرف على الآخرين وحقوقهم، أو على الدستور ذاته، لمجرّد الوصول إلى الحكم. لكن من الأمور، المهمّ التوقف عندها أيضاً، هو حال التخبّط أحياناً في استخدام المفاهيم والمصطلحات، عِلماً بأنْ ليس هناك نموذج تطبيقي واحد لأيٍّ من المصطلحات المستخدمة، الديني والعلماني.
ففي الدائرة الغربية الديمقراطية، نجد اختلافاً في المفهوم وفي التطبيق بين بعض تجارب العلمانية الأوروبية وبين التجربة العلمانية الأميركية، فكيف بتجارب الصراعات على الحكم باسم الدين الإسلامي على مدار أكثر من 14 قرناً؟!
بعض الأوطان العربية يعاني الآن من ثنائية تحدّيات تجمع بين خطر التدخّل الخارجي وخطر الصراعات الداخلية، بل مخاطر الحرب الأهلية. فهي هنا ثنائية مشكلة دور الخارج وانقسامات الداخل، ونلمس الآن ثنائية أزمة الهويتين الدينية والثقافية في المجتمعات العربية.
حيث أصبحت الهوية الدينية والهوية الإثنية، وكأنّهما نقيض للهوية القومية العربية وفي مواجهتها، بل أضحت الأولوية الآن للانتماءات الطائفية والمذهبية، وعلى حساب الانتماء إلى الدين الواحد والقيَم المشتركة بين كلّ الأديان.
للأسف، هذه الثنائيات في الواقع العربي الراهن، يُلازمها مرض عربي مزدوج أيضاً، يقوم على أحادية التفكير من جهة، وعلى ازدواجية المعايير من جهة أخرى، وهو مرض ليس وليد الحاضر أو الماضي القريب فقط، بل هو محصّلة لتراكم كمّي في الأوضاع السياسية على امتداد قرون زمنية طويلة، نحصد نتائجه حينما تشتدّ تحدّيات الخارج، إذ تظهر عندها بصورة جليّة أكثر مساوئ وأعطاب الداخل في مواجهة هذه التحدّيات.
أيضاً، إنّ المنطقة العربية مهدّدةٌ الآن بثنائية مشروعين يخدمان بعضهما البعض: مشروع التدويل الغربي لأزمات عربية داخلية، ثمّ مشروع التقسيم الصهيوني لأوطان وشعوب المنطقة. وما تقوم به جماعات التطرّف الديني العنفي، يسهم بتحقيق المشروعين معاً، في ظلّ غياب المشاريع الوطنية العربية التوحيدية.
المدخل الصحيح لمعالجة هذا الواقع، هو توفّر الفكر السليم الذي يقود ويحرّك طاقات القائمين به. فالأمّة العربية تحتاج الآن إلى رؤية فكرية مشتركة، تحسم الخلل والتناقض المفتعل بين هُويات مختلفة لأوطانها ولشعوبها.