مع أنني لست من المهتمين بكرة القدم، ولا أقرأ - إلا نادراً - الصفحات الكثيرة التي تخصصها لها الصحف، إلا أنني سرعان ما أجد نفسي غارقاً في متابعة أنباء المباريات الإقليمية والدولية، التي تكون إحدى الدول العربية طرفاً فيها، باهتمام بالغ وبحماس منقطع النظير، على نحو يدفعني لحفظ جدول مواعيد المباريات.

 وترتيب الفرق المشاركة، وتشكيل كل منها، وموقع كل لاعب من الفريق، ومدى أهليته لشغل الموقع الذي اختاره له مديره الفني، فضلاً عن تحليلات وتعليقات النقاد.. يجرني إلى ذلك حماس كل المحيطين بي، من الحلاق إلى سائق التاكسي، ومن الوزير إلى الخفير، ومن حارس العقار إلى نادل المقهى، ومن أستاذ الجامعة إلى تلميذ المدرسة، ومن المفكر الاستراتيجي إلى الناشط السياسي، على نحو يشعرني بأنني سوف أنفصل عن التواصل معهم، إذا لم أشاركهم هذا الاهتمام.

وعلى امتداد سنوات، وأنا أتابع الآراء التي يحاول أصحابها البحث عن تفسير مقنع للجماهيرية الكاسحة التي تتمتع بها كرة القدم - من دون غيرها من الألعاب الرياضية ومن الأنشطة الإنسانية - لدى كل شعوب العالم، فلا أحب إلا تفسيرات متداخلة تجمع بين ما هو نفسي، وما هو اجتماعي.

 وما هو اقتصادي وما هو سياسي، ربما كان أكثرها شيوعاً هو ما يذهب إليه المتخصصون في علم النفس الاجتماعي الذين يقولون إن الظواهر التي ترتبط بتشجيع كرة القدم، تنتمي إلى ما يسمونه «سيكولوجية الحشد»، وهي حالة نفسية تتحكم في سلوك الكتل الكبيرة من الجماهير، حين تجتمع معاً، فتخلق في ما بينها، بشكل تلقائي حالة وجدانية مشتركة توحد في ما بينهم وتدفعهم إلى سلوك جمعي، يفقد معه كل فرد ذاتيته وتميزه عن الآخرين، لتقودهم جميعاً «عقلية القطيع»، التي تكون عادة عند مستوى أكثر المشاركين فيه عاطفية وانفعالاً، وأقلهم ذكاء، وأدناهم وعياً.

ويذهب المهتمون بالسياسة من هؤلاء، إلى القول إن تلقائية وعفوية الحشد الجماهيري، لا تحول بين الأنظمة السياسية وبين التحكم فيها عن بُعد، بحيث توجهها - عبر أجهزة الإعلام التي تسيطر عليها - لتحقيق أهداف سياسية، على رأسها تسديد أهداف في مرمى فرق كرة القدم المنافسة، بدلاً من تسديد هذه الأهداف في مرمى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تعانيها شعوبها.

ولا أحد يستطيع أن ينكر أن كرة القدم التي لم يعرفها العالم العربي إلا في بدايات القرن الماضي، تدين للصحف وأجهزة الإعلام بالجانب الأكبر من جماهيريتها الكاسحة. وحتى منتصف ذلك القرن، لم تكن الصحف العربية تخصص لأخبار الرياضة البدنية سوى عمود أو عمودين من صفحتها قبل الأخيرة، التي كانت تخصص للوفيات والتعازي والمشاطرات.

، وهي مساحة قليلة كانت تشغلها في الغالب أنباء رياضات أخرى مثل حمل الأثقال والسباحة والسباقات والشيش، تجذب اهتمام الرياضيين العرب، لأنها أقرب إلى الموروث الرياضي العربي؛ ولم تعرف مصر إذاعة مباريات كرة القدم عبر محطة الإذاعة اللاسلكية للحكومة الملكية إلا بعد تنظيم مباريات الدوري العام في نهاية الأربعينيات.

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، سافرت إلى الجزائر لكي أشارك - ضمن وفد مصري - في مؤتمر الكتاب والأدباء العرب، حضرته وفود من كل الدول العربية.. حيث أمضينا أياماً نناقش فيها هموم الأمة، التي كانت - كالعادة - كثيرة ومتراكمة.

وكان من بين فعاليات المؤتمر أن يسافر الشعراء منا، إلى مدينة «وهران» لكي يلقي كل منهم قصائده على مسمع جماهيرها، على أن يعودوا في اليوم التالي؛ وعند الفجر غادروا الفندق، فعلاً، وهم يرتدون أفخم ملابسهم، ويحملون على أكتافهم مخالي الشعر وودعناهم إلى المطار ونحن نغبطهم على ما سوف يلقونه من حفاوة - وتصفيق - الجماهير الغفيرة التي سوف تحتشد لسماعهم.

وكنا لا نزال نتناول العشاء في مطعم الفندق، حين دخلوا علينا وهم أشبه بفلول جيش مهزوم، وقد تمزقت ملابس بعضهم، وترك البعض مخلاة شعره وبقية أغراضه في الفندق الذي كان يفترض أن يقضوا فيه ليلتهم، وعرفنا منهم أنهم ما كادوا يدخلون إلى القاعة التي خصصت لتشنيف أسماع جماهير «وهران» بقلائد أشعارهم، حتى فوجئوا بأنها خالية تماماً من الجماهير التي كانوا يتوقعون أن تحتشد لكي تستقبلهم بالتصفيق الحاد والمتصل.

 واعتذر لهم المنظمون بأن مواطني المدينة جميعهم، يلتزمون - في هذا التوقيت - بيوتهم لكي يتابعوا - على شاشات التليفزيون - مباراة في كرة القدم تجرى بين الفريق الجزائري وأحد الفرق الأجنبية.

وما كاد الشعراء يعلمون - بعد أن طال الوقت من دون أن يحضر أحد - أن الطائرة التي جاءت بهم سوف تعود إلى العاصمة بعد نصف ساعة، حتى اندفعوا في نفس واحد، يعدون بأقصى سرعة، حتى يدركوها، قبل أن يضطروا للمبيت في مدينة فضل أهلها أن يحتفظوا بتصفيقهم لفريق كرة القدم، وليس لفريق الشعراء.