بدخول «ترامب» إلى البيت الأبيض، دخل العالم بأسره في دائرة من الغموض والمجهول، دخل في لحظة ملؤها القلق والترقب والمخاوف والهواجس، ولم تقتصر هذه المخاوف والهواجس على منطقة بعينها دون أخرى، بل امتد تأثيرها إلى جميع المناطق والتجمعات الإقليمية والدولية.
في الشرق الأوسط، تتركز المخاوف حول مصير العملية السياسية لتسوية الصراع العربي والفلسطيني الإسرائيلي، وضمانات الدفاع الأميركية عن المنطقة في مواجهة الأطماع الإقليمية، والتداعيات المترتبة على احتمال موافقة الرئيس الأميركي على نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة والإضرار بحل الدولتين المستقر عربياً وعالمياً.
وبالرغم من هذه المخاوف فإن هناك ترقباً عربياً لم يصاحبه سعي دؤوب لصياغة علاقات مع الإدارة الأميركية الجديدة، تبدد هذه المخاوف وتقلص من تأثيرها، أو في حالة وقوعها بناء بدائل وتحالفات وتصورات جديدة لملء هذا الفراغ.
أوروبا والاتحاد الأوروبي يعانيان أيضا من هذه المخاوف والهواجس، ذلك أن الاتحاد الأوروبي منذ نشأته ومروراً بتوسعه شرق أوروبا وإقراره العملة الموحدة الأوروبية «اليورو» وحتى الآن لم يتمكن من بلورة سياسة خارجية أوروبية موحدة إزاء القضايا الدولية المختلفة، بل ظلت السياسة الخارجية الفردية هي أساس التوجهات الخارجية الأوروبية خاصة بالنسبة للقوى الأوروبية الكبرى كألمانيا وفرنسا.
كذلك لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من بلورة سياسة دفاعية أمنية موحدة ومتكاملة تمكن أوروبا من الاعتماد الذاتي في مجالي الدفاع والأمن، وانتهت كافة المحاولات الألمانية الفرنسية في هذا المجال إلى الوقوف عند مستوى الرمز لا أكثر.
أصبح الاتحاد الأوروبي القوة الاقتصادية الثانية بعد الولايات المتحدة الأميركية، بيد أن هذه القوة الاقتصادية لم تترجم بعد إلى قوة دفاعية وسياسية بمقدورها أن تضع الاتحاد الأوروبي في مكانة القطب الدولي.المفارقة المهمة في هذا الصدد أن دونالد ترامب يمثل في الواقع، التطور الطبيعي والأقصى للظواهر السياسية التي نشأت في أوروبا، أي ظاهرة الشعبوية واليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا وغيرها من الدول الأوروبية، تلك الظواهر التي تضع الغرباء والمسلمين على نحو خاص في مكانة الدخلاء على الهوية الأوروبية والثقافة الأوروبية تحت شعار «الأولوية الوطنية».
والحال أن الأوروبيين وأوروبا تبدو في هذه اللحظة ومنذ صعود ترامب كما لو كانت في مواجهة مع ذاتها، ذلك أن الظواهر التي سلفت الإشارة إليها أي العنصرية واليمين المتطرف والشعبوية، لا تزال تشق مجراها في الحياة السياسية والفكرية الأوروبية بل تزداد وتيرة نموها وصعودها، لأن هذه الحركات في أغلبها تمجد الوطنية والدولة القومية وترفض السيادة العابرة للحدود والأوطان.
وتريد الاحتفاظ بالدولة الوطنية القومية، وتضيق ذرعاً بالمفوضية الأوروبية في «بروكسل»، والتي لا تمثل في نظر هذه الجماعات والحركات سوى أقلية بيروقراطية معزولة عن معاناة المواطن الأوروبي وليست مهتمة بالمخاطر التي تحيط بالهوية الأوروبية.
ومن ثم فإن هذه الظواهر والحركات وقادتها ومريديها يلتقون مع دونالد ترامب، الذي يرفع شعار «أميركا أولاً وأميركا أولاً» ويناهض التجمعات السياسية والاقتصادية ويعادي المهاجرين والمسلمين «المتطرفين» وينحو نحو العزلة وبناء الحواجز حول الحدود، ومن هذا المنطلق فإن ترامب شجع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ويؤيد مارين لوبن مرشحة اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية الفرنسية وغيرها من دعاة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
رغم ضبابية مواقف ترامب إزاء أوروبا والاختلاف حولها بين أركان إدارته، إلا أن القلق والتوتر الأوروبي في تصاعد خاصة وأن الرئيس الأميركي في أيامه الأولى في البيت الأبيض قد اتخذ قرارات وأصدر أوامر تنفيذية تؤكد جدية تصريحاته الانتخابية مثل قرار الانسحاب من «الشراكة عبر المحيط الهادي» ضارباً بعرض الحائط توقيع إحدى عشرة دولة وقعت على هذا الاتفاق، وقراره بمنع دخول مواطني سبع دول إسلامية من الشرق الأوسط وقرار بناء سور على الحدود الأميركية المكسيكية.
بالإضافة إلى ما تقدم فإن الأوروبيين يخشون تقارباً بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، والحال أن الأوروبيين كالعرب وإن بدرجات متباينة يطرحون على أنفسهم..
أو هكذا ينبغي على الأقل – أسئلة صعبة طالما صمتوا عنها كثيراً حول سبل توفير الحماية لأمنهم معتمدين إما على تطوير وتخصيص موارد أكبر لبناء سياسة دفاعية وأمنية فعالة، أو في الحالة العربية بناء تحالفات جديدة عربية – عربية أو عربية دولية لمواجهة السياسة الأميركية التي لم تتبلور بعد ولكنها قد لا تتأخر كثيراً.