جاءت القمة العالمية للحكومات في دورتها الخامسة، ومعها 139 دولة تبحث عن أمل جديد في غد أفضل لشعوبهم، ولم لا؟، أليس هناك نموذج لدولة قامت وباتت نموذجاً يمكن الاحتذاء به، وهي تفتح ذراعيها، وتجعل من تجربتها زخراً لكل باحث عن الحقيقة، راغب في البناء، نعم إنها الإمارات العربية المتحدة، التي لم تكن يوماً أغنى البلاد بثروتها النفطية.

لكنها الأغنى بفكر قيادتها وإرادة شعبها في أن يحتل دائماً الرقم واحد، تلك الأمنية التي نظر البعض إليها باعتبارها أحلاماً مشروعة، لكنها بعيدة عن الواقع، فإذا بهذا الذي اعتبره البعض حلماً صعب المنال، أضحي واقعاً تصدقه مؤشرات لا يمكن تجاهلها، والأرقام هي أصدق من كل خطاب عاطفي أو حماسي، نعم إن الحقائق على الأرض لا تكذب ولا تتجمل، لكن تلمس آثارها ونتائجها، ولا يراها ضعاف الهمم ووهن الإرادة وغشاوة الرؤية.

جاءت القمة العالمية للحكومات، والتي باتت الحدث الأبرز عالمياً، والحراك الأكبر لحكومات العالم، وحملت في جعبتها ملفات تحتاج إلى جهد مضنٍ وعمل دؤوب وليالٍ طوال، الأمر الذي يستعصي على تناولها وعرضها في وقت معاً، غير أنني آثرت أن أتوقف عند ملمح واحد من مكونات المشهد الباحث عن الخير لشعوب العالم.

وكأن الإمارات في عام الخير، تقدم هدية جديدة لشعبها والمقيمين على أرضها، وللدنيا بأسرها. أتوقف عند ملمح من المشهد الشامل، وهو ذاك المصطلح، الذي نحته كعادته، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وهو «استئناف الحضارة العربية».

ولا شك أن توقفي عند هذا الملمح، نابع من شجاعة الطرح ذاته، وهو ما يفاجئك به سموه دائماً، وكشأنه في أنك لا تتوقع ما سيخرجه من مكنون أفكاره وزخر مبادراته وشجاعة الطرح، وهو شأن سموه، تأتي من التوقيت والظروف التي يمر بها عالمنا العربي في العديد من بقاعه، من تعقد وارتباك شديدين، وتناحر وتجاذب وعنف غير مسبوق، تداخلت فيها الخطوط للدرجة التي تجعل أكثر الناس حكمة في حيرة من أمره، في مرحلة تاريخية، أعتقد أنها من أصعب وأدق المراحل التي تمر بها شعوبنا العربية في معظمها، في هذه المشهد المعقد، الذي كشف لنا عن صورة شديدة القتامة، ناتجة عن مؤشرات واضحة، منها أن هناك 57 مليون عربي لا يعرفون القراءة والكتابة.

وأن 13.5 مليون طفل لم يلتحقوا بالمدرسة، وأن 30 مليوناً يعيشون تحت خط الفقر، وأن 5 دول عربية في قائمة العشر دول الأكثر فساداً في العالم، رغم أن العالم العربي يمثل 5 % من سكان العالم، وأن 75 % من اللاجئين عالمياً من العرب، وأن 68 % من وفيات الحروب العالمية عرب، وأن العالم العربي ينتج من الكتب سنوياً 20 ألفاً فقط، وهو ما يقل عن دولة مثل رومانيا، وغير ذلك من المؤشرات المتعلقة بعدد براءات الاختراع وغيرها، والكفيلة بأن تصيبك بالهم والحزن واليأس من تغيير حالة، وكأنها مستعصية.

ولكن القادة الحقيقيين لا تثبط عزائمهم تلك المؤشرات، ولا يربكهم الواقع، وإن كان صعباً، غير أنهم بنفاذ البصيرة والحكمة وقوة الإرادة، لا يخافون حين يخاف الناس، ولا ييأسون حين ييأس الناس، يذهبون بفكرهم إلى البحث عن مفرجات للخروج من الحالة، ويرون دائماً في دروب الظلام طاقات النور، وعند اشتداد الأزمات أمل الانفراج.

وعند اشتداد الوهن مكامن القوة، وعند الشعور بالهزيمة الحضارية، ينادون باستئناف الحضارة، هذا هو شأن القادة الذين غيّروا وجه الأرض، وصنعوا التاريخ، وقد ينبع ذلك من أنهم لا يملكون ترف تقلبات المشاعر، التي قد يشعر بها المواطن العربي بحكم المسؤولية التاريخية أمام الله، ثم الشعب وحكم التاريخ.

اجتمع لدى سموه، بعد شجاعة طرحه ذلك المشروع الكبير، عمق الفهم وجميل التواضع عند إطلاق مصطلح «استئناف الحضارة»، وكأنه تذكير لشعوبنا العربية أننا حقيقة أصحاب حضارة، قد تزدهر أحياناً وتضعف حيناً، وقد تعطي أحياناً ويقل العطاء حيناً، وقد يشرق نورها أحياناً ويخبو حيناً، وقد تمرض، لكنها لا تموت، وإن فعلها الإنساني قائم شامخ، ومقوماتها كامنة بداخلنا، تحتاج إلى من يستثيرها ويقضي على المعيقات التي تحول دون ذلك.

وفي ذلك المصطلح «استئناف الحضارة»، تقدير لجهود سابقين، ملؤوا بها الدنيا نوراً، وفي ذلك ترسيخ لقيمة الوفاء، وإن الحضارة وإن رفلت في ثوب جديد، إلا أنها لا يمكن أن يشتد عودها دون الاستناد إلى تاريخ من العطاء تليد.

وما يجب التوقف عنده طويلاً بالدراسة والبحث، المحاور التي حددها سموه لاستئناف الحضارة، منها مواجهة الفساد والقضاء عليه، ذلك الفساد الذي يكلف منطقتنا العربية ما يصل إلى تريليون دولار، والاهتمام بالشباب والإنصات إليهم والاستثمار فيهم، باعتبارهم قادة الغد، فضلاً عن إدارة رشيدة، باعتبار أن البلاد العربية لا تنقصها موارد.

ولكن تحتاج إلى إدارة تملك الرؤية والتخطيط ثم التنفيذ، يحدث هذا مع انفتاح على العالم أخذاً وعطاءً، تأثيراً وتأثراً، والإمارات تفتح أبوابها، وتضع تجربتها لكل راغب في البناء، بذلك نكون قد بدأنا استئناف حضارتنا العربية.