فارق كبير ومهم في الحياة الخاصة للناس، وفي قضاياهم العامة، بين تسليمهم بالأمر الواقع وبين الاستسلام له، وكثير من الناس يعيشون «أحلام اليقظة» أو يراهنون على تغيير يحصل من تلقاء نفسه، في ظروفهم ومشاكلهم، فلا ينطلقون من الواقع.
الانطلاق من الواقع هو أمر في غاية الأهمية، لكن الاستسلام لهذا الواقع، واعتبار أن تغييره مسألة مستحيلة، هو الذي يزيد من مأساة الأفراد والجماعات.
هناك الآن حالة قبول لواقع عربي، يقوم على ظواهر انقسامية خطرة تنخر الجسم العربي، وتمزق بعض أعضائه، كما هو الحال أيضاً مع واقع التدخل الأجنبي، ومع أوضاع الفساد السياسي والاقتصادي في بعض البلدان.
الشعوب والمجتمعات، حيث الأزمات الكبيرة المفاجئة تحرك مكامنها، وتدفعها إلى الحركة والتغيير واستحضار مقومات القوة والدفاع عن النفس، بينما تتكيف هذه الشعوب مع الأزمات المتراكمة زمنياً، والتي تنمو فيها السلبيات على مراحل، فتصبح الأزمات بمرور الزمن مقبولة، ويسهل التعايش معها واعتبارها بعضاً من مظاهر الحياة اليومية في مجتمعات هذه الشعوب.
عاشت بعض البلاد العربية، خلال القرن الماضي حالات من الأزمات والنكبات الكبيرة المفاجئة، والتي ولدت ردود فعل شعبية وسياسية عربية واسعة، لكن أيضاً شهدت المجتمعات العربية، ولا تزال، العديد من الأزمات النامية على مراحل، والتي أصبحت في ما بعد واقعاً مقبولاً جرى الاستسلام له.
ولعل خير دلالة على اقتراب المياه العربية في بعض الدول من درجة الغليان الحاصل على مراحل، والمسبب للموت البطيء، منذ أربعة عقود تقريباً، هو تدني مستوى الشعارات المطروحة على المستويين الوطني والقومي.
لعل هذا ما يفسر أيضاً كيف كانت حركة الشارع العربي زاهرة ونابضة في الخمسينيات والستينيات، وكيف أنَها ركدت وخبت في ما بعد بسبب تحول القضايا العربية المشتركة إلى «قضايا عربية متصارعة»، وبعد أن اشتعلت أكثر من حرب أهلية عربية في أكثر من مكان، وبعد أن شاخت حركة بعض المنظمات العربية أو اتجهت في مسارات فئوية ومحلية.
«لا يصح إلا الصحيح»، قول مأثور يتناقله العرب، جيلاً بعد جيل، لكن واقع حال العرب لا يسير في هذا الاتجاه، إذ إننا نجد في العقود القليلة الماضية، مزيداً من الخطايا والأخطاء تتراكم على بعض شعوب الأمة العربية، وعلى بعض أوطانها المبعثرة.
واقع حال معظم بعض البلاد العربية، أشبه بحقول ألغام تُهدد من فيها بالتمزق إلى أشلاء، وهو واقع يدفع حتماً ببعض الناس لليأس والإحباط والسلبية، والابتعاد عن أي عمل عام، كما أنه قد يكون مبرراً للبعض الآخر من أجل استخدام العنف المسلح ضد «الآخر» في الوطن الواحد.
حتى على مستوى الحركات السياسية ذات الصبغة الدينية أو القومية، فقد انتقلت شعارات بعضها من عموميات «الأمة» إلى خصوصيات «المذاهب» و«المناطق»، كما انتقل بعض «التيار الديني» في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلح، وما يجلبه هذا الأسلوب من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمة معاً.
لقد تحول العنف الداخلي، الجاري الآن في بعض البلدان العربية، إلى حروب أهلية عربية، والتي سيكون ختامها لصالح نجاح المشروع الإسرائيلي فقط، حتى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.
صحيح أن للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثرة في تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَا حدث ويحدث من شرخ كبير داخل المجتمعات العربية؟
ماذا عن مسؤولية المواطن نفسه في أي بلد عربي، وعن تلك القوى التي تتحدث باسم الجماهير العربية، وعن المفكرين والعلماء والإعلامين، الذين يُوجهون عقول «الشارع العربي»؟!
حاضر عربي سيئ، لكن ماذا بعد وماذا عن المستقبل. وهل الحل في السلبية، وفي الإحباط وفي الابتعاد عن السياسة وعن أي عمل عام؟!
هل يؤدي الهروب من المشاكل إلى حلها. وهل سيصلح الإحباط واليأس، الأوطان والمجتمعات ومستقبل الأجيال القادمة؟!
الحقيقة هي بشكل معاكس، أي أن الابتعاد عن العمل العام سيزيد من تفاقم الأزمات ولن يحلها، وسيصنع الفراغ لمنتفعين ولمتهورين يملأونه بمزيد من السلبيات.
إن الشارع العربي، بالمعنى السياسي هو حالة تحرك جماهيري عربي تتصف بالشمولية الحركية، وبالوقوف خلف قضية واحدة، وبوضوح الهدف المطلوب إنجازه. فهل تتوفر الآن هذه العناصر في المنطقة العربية، بحيث تحدث حركة جماهيرية عربية واحدة؟
جيل الشباب العربي، أضحى أسير أحد خيارين، أحلاهما مر له ولأوطانه: السلبية القائمة على مفاهيم فردية نفعية، أو الاندفاع نحو حركات فئوية تفرق ولا توحد، وبعضها يخدم كيد الأعداء، حتى وهو يصارعهم!
المنطقة العربية محكومة الآن بنتائج مزيج الخطايا من الداخل والخارج، بما صنعته بعض الحكومات ومعارضات محلية، وبما تفعله سياسة التدخل الإقليمي والدولي في شؤون العرب وأوطانهم، والمشكلة هي في انعدام الإرادة العربية المشتركة، وفي تقييد الإرادات المحلية الوطنية، ورهنها لسياسات خارجية.
لا مشكلة عربياً في الإمكانات والثروات، ولا في العقول والخبرات وحجم الطاقة البشرية، بل هي مشكلة عدم التوظيف الصحيح لما تملكه الأمة من خيرات مادية وبشرية.
الأمة العربية تحتاج إلى مؤسسات وحركات شعبية ترفض الواقع، لكن ترفض أيضاً تغييره بواسطة العنف والإكراه والأفكار الظلامية والفئوية.