بعضهم، يمر يوم مولده، كعادته، لا يتذكره إلا بعد فوات الأوان، وهذه المرة صديقنا الخمسيني تذكره ذات يوم على وقع صراخ رضيع في حضن أمه المتسولة على قارعة الطريق.

وبرغم من أنه قد مرّ للتو عن محل بيع الزهور وآخر لبيع الشوكولاته، لم تحفزه الذاكرة الاحتفالية بأن عيد مولده قد فات أو مات.

ولكن بكاء الرضيع في حضن أمه الجائعة، يجعله يدرك أن يوم مولده قد تنازعته الأيام، ودخله هذه السنة وهو في الرابعة أو الخامسة والخمسين، متأخراً أو متقدماً عاماً أو عامين. ولكن هذا ليس مهماً، الأهم أنه دخل الحياة من حيث تذكر في دورته السنوية، أملاً وعملاً وشقاءً، فسحته الوحيدة كانت حالة التيه التي تبعثره، يفقد فيها الأمكنة والأزمنة والاتجاهات.

أما أصحاب الذاكرة الجيدة، فيترقبون ويتحسبون لهذا الحدث السنوي، ومن جهة أخرى، يدّعون نسيانه ويزعمون إهماله، ويتحاشون قبل شهر من موعده الحديث عن العمر والسنين وأعياد الميلاد، الوقت الذي فيه الأحبة والفرقاء والغرماء يتآمرون بصمت لإقامة حفل عيد ميلاده، فتأتي المؤامرة كل عام في اليوم ذاته، حيث يُصْلَب صديقنا على آلة الزمن، مزيناً بالورود والحلوى والشموع، بينما يدّعي المُحتفى به أو بها، الدهشة ونجاح المؤامرة.

وتستمر أعياد الميلاد عاماً بعد عام، وما هي إلا أرقام تتراكم على عجلة الزمن التي تصدأ، أما أولئك الذين ينسون حقاً رزنامة أيامهم، تُدهشهم حقاً أعمارهم، ولو متأخرة، وكل عام يُفاجؤون بها فرادى، ويحتفلون بها وحيدين، سعداء أو تعساء، بواقعية وبدهشة فوات الأوان. متأخرون كل سنة عن موعدهم، فلهم دورتهم السنوية التي لا تعتمد على أجندة أو مؤامرة الفرح.

قبل شهر من موعد مولدها، التي به تكمل سعاد ربيعها السادس والأربعين تجنبت سعاد أن تذكر أمام أحد ما يشير يوم مولدها، لأن في ذلك ما قد يوحي بأنها تَرْقب المؤامرة المفضوحة التي يحيكها زملاؤها ضدها في يوم مولدها. تتوقف حياة سعاد طوال العام، وتستأنفها في تاريخ مولدها، بهجة وفرح وحب لا متناهي، فهي مركز الحدث واليوم يومها، وتصدح في أذنيها صرخة ترحاب الحاضرين المتآمرين.

وبالعودة إلى يوميات العمل، تتحول المؤامرات المزيفة إلى حقيقية، وتتحول أسنان الابتسامة إلى أنياب الحياة، حيث لا حفاوة ولا اهتمام.

أما صديقنا مجهول الاسم، واضح الهوية في آلامه وشقائه، هو الوحيد الذي لا يحتفى به أو يأبه بمولده أحد، يذوي لحظات في يوم ليس بمولده، متذكراً ما فاته من مناسبة، يستأنف حياته سريعاً إذ بلغت من الانشغال عَتيّها، فغدا في أتونها فريداً أو طريداً، تنهشه الأيام والوجوه والفصول، وهنا المغايرة.

يستقبل هذا الوحيد غروب الشمس على أنه بزوغ القمر. ويغزل غياب القمر من شقوق النهار في خيوط الشمس، ليستطيع أن يستمر في الحياة، الحياة بأن نرى أيامنا أعيادنا، وألا نرى أعيادنا أيّامنا.

صباح عيد ميلادها، تتجمل سعاد، وتلبس أبهى ما لديها، وتشتعل ألواناً وبريقاً، ومع كل ذلك تخفي بهجتها باكتمال عمرها، وتتحرك ساذجة بريئة، تغض الطرف عن الحفل، حتى ظهيرة ذلك اليوم، حيث الشموع والزينة والموسيقى وأغنية »سنة حلوة يا جميل«. تتناثر حولها القبل والابتسامات، حيث تتوتر الوجنات وتصعد وتهبط بسرعة البرق.

وترفض سعاد أن تبوح بعمرها الحقيقي، على الرغم من صغر سنها، وُتلتقط الصور، وينتشر الخبر على الملأ، فاليوم عيد مولدها، لدرجة أن السماء كادت تمطر عليها ورداً سيذبل، وشوكولاته وشموعاً، والبركة في قنوات التواصل الاجتماعي. اليوم سعاد تعود إلى بيتها وهي بؤرة الاهتمام ومركز الكون، هذا اليوم بالتحديد، يعادل سنة تُعوّض ما فاتها من غياب.

أما صديقنا البسيط الوحيد، يذهب إلى بيته متعباً، وفي جعبته ذكرى ميلاده التي تذكرها متأخراً، يعانق زوجته وأطفاله، ويتأمل نصف القمر يبزغ خلف غيمة داكنة، تكاد تهبط عليه من نافذته الصغيرة، ويرقد الرجل المتعب في بؤسه بسلام، ليستيقظ غداً في يوم جديد، لا يتذكر فيه سوى صدى صوته على عربته عند كل زاوية ينادي فيه الناس، يدعوهم ليشتروا نباتات الزينة التي رش أزهارها بالماء، لتبقى يانعة نضرة.