حالُ الثقافة العربية الآن، هو كحال الأراضي الفلسطينية المحتلّة. فالثقافة العربية أيضاً تتهدّدها مخاطر «الاحتلال» و«نزع الهويّة العربية»، بينما تعاني الحكومات والمجتمعات العربية من صراعات وخلافات تنعكس سلباً على كلِّ المشترَك بين العرب، وفي مقدّمه الثقافة العربية والقضية الفلسطينية..

فلسطين، تجاوزت أهميّتها أبعاد المكان فقط، فهي رمز لتاريخ وحضارة ورسل ورسالات سماوية. كذلك هي الثقافة العربية أيضاً، التي لها أبعادها الحضارية المشتركة بين المسلمين والمسيحيين العرب، كما للغتها العربية مكانة مقدّسة لعموم المسلمين في العالم.

العرب كان لهم ثقافة خاصّة بهم فقط، قبل ظهور الدعوة الإسلامية، أيضاً، كان وجود هذه الثقافة محصوراً جغرافياً في إطار البقع السكانية التي تتحدّث اللغة العربية. وكانت طبيعة هذه الثقافة، تتّصف بما كانت عليه القبائل العربية من سمات وخصائص.

.أمّا بعد ظهور الدعوة الإسلامية، فإنّ الثقافة العربية أخذت مضامين جديدة، جاء بها الإسلام بحكم نزول كتاب الله الحكيم باللغة العربية.

في ذلك الحدث التاريخي، خرجت الثقافة العربية، من الدائرة العنصرية (الخاصّة بالعرب)، إلى الدائرة الحضارية الإنسانية (التي جاءت بها مضامين الدعوة الإسلامية).

لكن الثقافة العربية، كغيرها من ثقافات العالم، يندمج فيها عبر حركة الزمن، الصالح والطالح معاً، وتكون مهمّة القائمين على هذه الثقافة والحاملين لها، إجراء عملية الفرز بين ما هو إيجابيّ في الأصل، وبين ما هو سلبيّ في الإلحاق.

الثقافة العربية، كغيرها من الثقافات أيضاً، يرتبط تأثيرها بدور الجماعة البشرية التي تنتمي إليها، حيث نجد في تاريخ المجتمعات، ما هو تأكيد على هذه المسألة، حول الترابط بين دور الثقافة ودور المنتمين إليها، فانتشار اللغة الإنجليزية إلى مشرق الأرض ومغربها، تحقّق حين كانت بريطانيا «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس». وقد كان انتشار اللغة الإنجليزية، مقروناً بمقدار توسّع سيطرة وهيمنة الشعب الإنجليزي على مناطق عديدة في العالم.

واليوم، وبعد عشرات السنين من التحرّر من الهيمنة البريطانية، ما زالت أستراليا ودول في شرق آسيا، وغيرها من الدول، شرقاً وغرباً، تأخذ بالعادات البريطانية وتقاليدها الاجتماعية، إضافة إلى لغتها الإنجليزية، فالانتشار الثقافي عالمياً، يرتبط بقوّة تأثير ودور الجماعة التي تحمل هذه الثقافة.

إذن، كلّما كان لأيِّ جماعة بشرية أو أمَّة دور فاعل (بمضامين حضارية أو بأساليب هيمنة)، انتشرت واتّسعت ثقافة هذه الأمّة، و«تَعَوْلَمت» على مرِّ السنين.

أمّا حال العرب اليوم، فهو يسير من سيئ إلى أسوأ، وتعاني أمّتهم الآن من انقسامات وصراعات انعكست على الثقافة العربية نفسها، لذا، نجد الثقافة العربية مهدّدةً الآن (كما هي اللغة العربية أيضاً)، ليس من حيث الدور فقط، بل من حيث الوجود الفاعل نفسه.

فالثقافة العربية هي الآن الباقي الوحيد، كرمز يجمع بين العرب، والخطر عليها كوجود، لم يبدأ فقط مع وجود الاحتلال الأوروبي للمنطقة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بل بدأ مع سقوط الريادة العربية للعالم الإسلامي.

في سياق هذا الموضوع عن الثقافة العربية، أجد أنّ من المهمّ التمييز في المصطلحات بين «الحضارة» و«الثقافة». فمن الخطأ استخدام تعبير «الثقافة الإسلامية»، إذ الأصحّ القول «الحضارة الإسلامية». فهناك «حضارة إسلامية واحدة»، لكن قائمة على ثقافات متعدّدة، ومنها الثقافة العربية. مهما تقاربت دول العالم في المجالات الاقتصادية والتجارية والعلمية والإعلامية، وربّما أيضاً في سمات الأنظمة السياسية، فإنّ الخصائص الثقافية لكل أمّة، ستبقى قائمة، لتلعب دوراً رئيساً في العلاقات والمصالح، وربّما الصراعات، بين الأمم المختلفة على هذه الكرة الأرضية الواحدة.

وكما هو الواجب في الحفاظ على هُويّة فلسطين وتحريرها من الاحتلال العسكري، كذلك هو واجبٌ الحفاظ على «عروبة» هويّة العرب، من خلال الحفاظ على «الهويّة الثقافية العربية»، و«تحريرها» من أمراض الذات، ومن هيمنة «الآخر».

في هذه الظروف التي تمرّ بها المنطقة العربية، تزداد مشاعر اليأس بين العرب، وتصل ببعضهم إلى حدّ البراءة من إعلان انتمائهم العربي، وتحميل العروبة مسؤولية تردّي أوضاعهم. وهي هنا مشكلة الخلط بين الانتماء والظروف، بين العروبة والأنظمة، بين الهويّة والممارسات.

الانتماء الوطني والقومي، ليس ثياباً نلبسها ونخلعها حين نشاء، بل هو جلد جسمنا، الذي لا نستطيع تغييره مهما استخدمنا من أدوات مصطنعة. وسواء رضينا بذلك أم لم نرضَه، فتلك طبيعة قانون التطوّر الاجتماعي الإنساني، الذي ينتقل بالناس من مراحل الأسر والعشائر والقبائل، إلى مرحلة الأوطان والشعوب والأمم.

إنّ العروبة فخر لأبنائها وبناتها، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فيكفي فخراً أنّ الأرض العربية كانت أرض الرسالات السماوية كلّها، وأنّ الله عزَّ وجلَّ، كرّمها بأنّ بعث رسله كلّهم منها وعليها، فكانت هذه الأرض الطيّبة، منطقة ومنطلق الهداية الإلهيّة للناس أجمعين في كلّ مكان.

لكن هذا الافتخار بالأرض وبالتاريخ، لا قيمة له وحده، ما لم نجعله، بالعمل المستمرّ وبالمسؤولية الواعية، حاضراً نعيشه، وجسراً يصل بنا إلى مستقبل أفضل.