لم تكن المشادة التي حدثت في الأسبوع الماضي، بين رئيس مجلس النواب المصري وبين بعض نواب المعارضة، هي أولى المشادات التي تحدث في المجالس النيابية في العالم.. ولن تكون آخرها، ومن المبالغة الزائدة عن الحد، أن يعتبرها البعض دليلا على عدم أهلية العرب للحكم النيابي، أو أن يعتبرها آخرون حادثاً تاريخياً فريداً، إذ الواقع أنها واقعة متكررة الحدوث بالقياس إلى ما حدث وما يحدث في برلمانات العالم الأول والعالم الثاني والعالم الثالث - الذي سمي كذلك لأنه لا يوجد عالم رابع، طبقاً للمقولة الشهيرة، التي تنسب للزعيم الهندي «المهاتما غاندي.
خلاصة ما حدث، هو أن «هيثم الحريري» - نائب دائرة الرمل بالإسكندرية - أصر على أن يمارس حقه في الكلام أثناء مناقشة أحد مشروعات القوانين، وطبقاً لروايته فقد اتبع كل القواعد التي تنص عليها لائحة المجلس، فطلب -كتابةً- قبل الجلسة، الكلمة ليبدي اعتراضه على مادتين في مشروع القانون، ولكن رئيس المجلس اقتصر على إعطائه الكلمة مرة واحدة، وتجاهل طلبه عند مناقشة المادة الثانية، ما دفعه لمقاطعة المتحدثين، لكى يأخذ حقه في الكلام، معترضاً على طريقة إدارة الجلسة، قائلا إن رئيس المجلس بتعليقه على آراء النواب من موقعه على منصة الرئاسة، يسعى إلى توجيههم وجهة محددة، وهو ما يخالف اللائحة، ورد عليه رئيس المجلس منبهاً إياه، إلى أنه يخل بنظام الجلسة، وأن ما يقوله لا صلة له باللائحة، لأنه لا يفهم فيها، وهو ما أثار غضب النائب الذي رد عليه قائلا: وأنت لا تفهم لا في اللائحة ولا في الدستور، وهو كلام استفز رئيس المجلس، الذي اعتبره مساساً بشخصه، خاصة أن النائب - كما استطرد رئيس المجلس يقول - دأب على الهجوم عليه وانتقاده في الصحف وبرامج التليفزيون، وبناء عليه قرر إحالته إلى هيئة مكتب المجلس، لتحقق معه في شأن ما صدر منه، وتدخل بعض نواب الأغلبية في الأمر ليتحول إلى مشادة كلامية، كادت تصل إلى حد التشابك بالأيدي بينهم وبين المعارضة، لولا أن أولاد الحلال تدخلوا لرفع الجلسة حتى تهدأ النفوس من أثر هذا الاستفزاز البرلماني المتبادل.
وبصرف النظر عن الجوانب الموضوعية المهمة للمشادة ذاتها، التي لا تزال محاولات أولاد الحلال لتجاوز آثارها قائمة حتى الآن، فليست هذه أول مرة تحدث فيها مشادة من هذا النوع في المجلس النيابي.. فقد حدث في عام 1943، وكانت أغلبية مجلس النواب آنذاك تنتمى لحزب الوفد، أن قررت الحكومة الوفدية التي كانت قائمة، أن تصفي حسابها مع رئيس الديوان الملكي «أحمد حسنين باشا»، إذ علمت أنه كان يسعى للحصول على موافقة السفارة البريطانية على إقالتها، بعد أن تراجعت ظروف الحرب العالمية الثانية التي دفعت البريطانيين - في 4 فبراير 1942 - إلى محاصرة قصر الملك، وإجباره على تكليف رئيس الحزب مصطفى النحاس باشا بتشكيل الحكومة، أما وقد رفضت الحكومة البريطانية مسعى رئيس الديوان، فقد دفعت الحكومة البريطانية أحد نواب الأغلبية لكي يتقدم بسؤال إلى وزير المعارف، عن نشاط المدارس الصناعية في تصنيع الأثاث، وهل لهذه المدارس ديون عند كبار الموظفين؟
وفي إجابته عن السؤال قال الوزير إن الموظف الحكومي الكبير المدين لإحدى هذه المدارس، هو صاحب المقام الرفيع أحمد حسنين باشا، الذي كلفها بتصنيع أثاث له، وتسلمه، ولم يسدد ثمنه، على الرغم من تكرار المطالبة به، وفي تعليقهم على هذه الإجابة، تتالت مداخلات النواب الوفديين يطالبون الحكومة باتباع الحزم والشّدة مع هذا المدين المماطل الذي يستحل لنفسه أموال الدولة.. ووقف النائب المعارض «فكري أباظة» لكى ينبه النواب الوفديين إلى أن عجز رجل يشغل مركزاً مرموقاً وخطيراً، عن سداد دين لا يزيد على مائتي جنيه، دليل على نزاهته إذ كان باستطاعته أن يستغل منصبه وظروف الحرب، لكي يجمع ثروة هائلة لولا أنه رجل فقير وشريف وأمين.. لما عجز عن سداد ديونه وأن ما يقوله نواب الأغلبية.. هو صغار في صغار.
واستفز ما يقوله النائب المعارض نواب الأغلبية، وطالبه رئيس المجلس بالكف عن الكلام فلم يستجب، وأمره بمغادرة القاعة طبقاً للائحة، فرفض فأمر حرس المجلس بإخراجه عنوة.
وفي اليوم التالي، وأثناء عرض التصديق على مضبطة الجلسة السابقة، طلب «فكري أباظة» الكلمة ليقول إنه لاحظ أنها قد خلت من أية إشارة إلى الوقائع التي انتهت بطرده عنوة من الجلسة من اللحظة التي بدأت فيها مناقشة السؤال الذي قدم إلى وزير المعارف إلى اللحظة التي حمله فيها الحراس إلى خارج القاعة، فإذا بالجميع يؤكدون أن شيئاً من ذلك لم يحدث، وأنه لم يكن هناك سؤال.. ولم تكن هناك إجابة.. ولم يكن هناك والعياذ بالله طرد
وفيما بعد، عرف «فكري أباظة» أن موظفاً كبيراً بالسفارة البريطانية، قد قابل رئيس الوزراء «مصطفى النحاس» بعد ساعة من الواقعة، وأبلغه أن الحملة التي شنها نواب الوفد ضد رئيس الديوان حملة ظالمة، وأن الحكومة البريطانية قد رفضت مطلب إقالة الوزارة، وتحرص على أن تكون العلاقة بين السلطات طيبة، لكي تتعاون معاً لمواجهة ظروف الحرب واتفق معه على حذف كل ما أثير حول هذا الموضوع من مضبطة الجلسة!
وتوتة.. توتة.. خلصت هذه الحدوتة، ولكن صفحات كتاب المشادات تحت قبة البرلمان لم تنته بعد!