أحدث البيانات السياسية الصادرة عن الإدارة الأميركية بشأن مصير الرئيس السوري بشار الأسد، وضع كثيراً من النقاط على الحروف، وعلى وجه التقريب، حدد بوصلة التسوية السياسية المنشودة، بجعل النظام السوري جزءاً من الحل، بدلاً من اعتباره أساس الأزمة والمشكلة.
وكما هو معلوم، فقد أكد البيان أن رحيل الأسد، من المنظور الأميركي، ليس أولوية بالنسبة لتسوية الأزمة السورية، ليجد ذلك اتفاقاً وتناغماً مع أطراف دولية كبرى، وإقليمية مؤثرة، تساند النظام السوري، بينما يخلط أوراق المعارضة السورية ذاتها، وأطراف إقليمية أخرى، كانت ترى في رحيل الأسد أولوية كبرى، كطريق للتسوية ووقف العنف والقتال.
شهدت العاصمة النمساوية فيينا في أكتوبر 2015، اجتماعاً يعد الأول الذي يجمع الدول الأربع الفاعلة في المسألة السورية، وأسفر هذا الاجتماع، الذي فشل أطرافه في التوصل إلى اتفاق حول بعض القضايا الأكثر تعقيداً، وعلى رأسها مصير الأسد عن توافق على عقد اجتماع موسع آخر في فيينا في أكتوبر 2015، يضم جميع الدول الفاعلة أو ذات العلاقة بالمسألة السورية، بما فيها إيران، كما تم التوصل إلى بيان من تسع نقاط، اعتبره البعض تطوراً مهماً باتجاه ظهور إجماع دولي وإقليمي على أسس الحل السياسي.
واتضحت خلال اجتماع فيينا ذاتها، ملامح جديدة لتفاعلات الصراع السوري، إذ في ظل غياب أي طرف سوري عن اجتماعات فيينا، سواء من النظام أو المعارضة، بدا واضحاً أن الحل لم يعد في متناول السوريين، بل أصبح شأناً إقليمياً ودولياً، وإرادات تطالب بتسوية «عادلة» تفضي إلى هيئة أو إدارة انتقالية تقصي الأسد من المشهد السياسي ومن مستقبل سوريا، وتبدأ بإعادة الإعمار، وأخرى تقترح وقفاً لإطلاق النار.
ليس خافياً أنه منذ ذلك التاريخ وقبله بعدة سنوات، وبعده بسنوات مماثلة، وصولاً إلى «جنيف 3 و4 و5...إلخ»، وإجمالاً، منذ أكثر من ست سنوات على تفجر النزاع السوري واتساعه وتمدده لآفاق غير متوقعة، طرحت خلالها العديد من المقترحات ومشاريع التسوية، وتعددت المرجعيات ما بين جنيف والآستانة، بينما آلة الدمار على الأرض تأكل الأخضر واليابس، وتدمر المدن والقرى والبيوت والأحياء، وتواصل حصد الأرواح من المدنيين وتشريد ملايين الأبرياء كلاجئين ونازحين.
وربما كان الأهم في هذه المشاهد، ما يمكن اعتباره عودة للمربع الأول، بعد هذه الرحلة الطويلة من الآلام، فقد سقط عديد من المطالب السياسية المبدئية التي لم تحقق أي نتائج خلال جولات المفاوضات والمباحثات المتعددة، ويرتبط بذلك تساؤلات متجددة حول جدوى إطالة أمد الصراعات والأزمات.
لقد أدت هذه الجدلية المدعومة بالتأكيد من جانب قوى إقليمية وأخرى عالمية، دفاعاً عن مصالح ذاتية، إلى تعطيل المفاوضات وانسداد أفق الحلول السياسة بتفاصيل لم يكن لها فرص للنجاح منذ البداية، فبينما رأت قوى المعارضة على الصعيد السوري والفريق الداعم لها، أن الأولوية المطلقة لحل سياسي يقوم على رحيل الأسد وأركان نظامه رحيلاً فورياً، حتى من المراحل الانتقالية ذاتها، فإن الأسد ونظامه وداعميه إقليمياً ودولياً وأركان دولته، رأوا جميعاً أن الأولوية المطلقة للمسائل الأمنية، وعلى رأسها بالتأكيد الخلاص من الجماعات والتنظيمات الإرهابية، بما يفتح الباب أمام استتباب الأوضاع الأمنية، وبالتالي، التفاوض على أي تسويات سياسية من أرضية صلبة ومستقرة.
ولا شك في أن هذه الجدلية لا تنبع من فراغ، وإنما من صراع إرادات سياسية في المقام الأول، فمثل هذه الأزمات المعقدة ما دامت قد تفجرت، مع عجز الأطراف المعنية عن تسويتها ونزع فتيلها في مراحل مبكرة جداً، فإنها في الغالب تأخذ مداها الزمني والمأساوي، إلى أن تحدث تحولات كبرى، وربما غير متوقعة، تقود إلى التسوية المنشودة، ولا شك أيضاً في أن هذه الجدلية لن تختفي ولن تزول بين عشية وضحاها، أو في المدى المنظور، إلا أن البيان الأميركي الأخير بشأن عدم أولوية رحيل الأسد في الوقت الراهن، قد يدفع أطرافاً عديدة معنية بالأزمة السورية، إلى إعادة حساباتها من جديد، وربما بشكل أكثر واقعية.
الموقف الأميركي يفتح الباب للتفاوض، انطلاقاً من أسس جديدة، ليست بالضرورة في صالح بشار الأسد ونظامه، ولكنها ستصب في الغالب في صالح تسوية سياسية لم تتكشف بعد كل تفاصيلها وأبعادها وأهدافها النهائية، ومن المناسب أن نتذكر تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية، عندما أكد أنه على المستوى الشخصي، لا يطيق الأسد، ولكنه يرى أن التعامل معه أفضل بكثير من التضامن مع الإرهابيين، ويبدو أنه قرر وضع هذه التصريحات موضع التنفيذ الفعلي.