لا يتسع المقام في هذه السطور، لتتبع الموقف المصري من القضية الفلسطينية من أنظمة ما قبل ثورة يوليو عام 1952 وبعدها، إلى ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، وموجتها الثانية في الثلاثين من يونيو عام 2013، وذلك منذ أن اتضحت طبيعة الخطر الصهيوني في فلسطين بعد وعد بلفور عام 1917، ومروراً بقرار التقسيم لعام 1947، وانتهاء بإعلان قيام دولة إسرائيل في مايو 1948، في جميع هذه المحطات الفاصلة، كان لمصر مواقف داعمة ومؤيدة لنضال الشعب الفلسطيني ضد الصهيونية وإسرائيل في ما بعد.
ومصر في هذه المواقف المستمرة والمتجددة، لم تكن تنطلق من دوافع براغماتية نفعية، تستهدف نيل رضا الرأي العام ومجاراته، على غرار ما فعلت الكثير من الجماعات والأحزاب، بل كانت تستند إلى دوافع قومية واستراتيجية تتعلق بالأمن القومي العربي على المدى البعيد، فمصر كانت ترى الخطر الصهيوني شاملاً لكل العالم العربي، ولن ينجو أحد من مخاطره وأخطاره، لأن هذا الخطر يفصل مشرق العالم العربي عن مغربه، ويفصل مصر عن سوريا، ويحول دون التواصل والتفاعل بينهما لمواجهة الأخطار التي تهدد الأمن القومي العربي، ومن هذا المنطلق، لعبت مصر دوراً رئيساً في إنشاء جامعة الدول العربية، وبذلت في هذا السياق أقصى مجهود دبلوماسي حتى ترى الجامعة النور، واتخذت مقرها في القاهرة، وتولى أمانتها العامة عبد الرحمن عزام، حتى تكون هذه الجامعة الواجهة العربية لدعم فلسطين قانونياً ومادياً.
كما أن مصر كانت ولا تزال ترى في القضية الفلسطينية جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، والدفاع عنها دبلوماسياً وسياسياً وقانونياً وعسكرياً، ليس فحسب دفاعاً عن شعب شقيق عربي تربطه بمصر روابط اللغة والتاريخ والحضارة والدين، بل دفاعا عن نفسها وذوداً عن أمنها وأمتها العربية.
مع تصاعد النضال الفلسطيني ضد الاحتلال وإسرائيل منذ النصف الثاني من الستينيات، وظهور منظمة التحرير الفلسطينية كوعاء ناظم لتيارات النضال الفلسطيني، أيدت مصر وبقوة ظهور المنظمة، واعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وعنوان الهوية الوطنية الفلسطينية، وفتحت القاهرة أبوابها لإعلام المنظمة وإذاعتها، واحتضنت قيادات المنظمة التاريخية، وقدمتهم للرأي العام المصري والعربي، وساندتهم في المحافل الدولية بكل ثقلها الدبلوماسي والقانوني والسياسي.
لم تحاول مصر، كما فعلت العديد من الدول، أن تخلق ذراعاً لها في منظمة التحرير الفلسطينية، ليكون لسان حالها داخل المنظمة وينطق باسمها، بل تركت للفلسطينيين إدارة شؤونهم بأنفسهم، ونأت عن الانخراط في الصف الفلسطيني بالطريقة التي تعوق النضال الفلسطيني، وتفرض وصاية يمكن أن تكون مضرة أكثر ما هي نافعة.
في المرحلة الراهنة، لم تتجاهل مصر، رغم ثقل أعبائها بعد الثلاثين من يونيو، ورغم مواجهتها للإرهاب ومهمات بناء الدولة والاستقرار، وترسيخ قواعد النظام الجديد، القضية الفلسطينية، بل وجدت هذه القضية مكانها الجديرة به، في الأجندة الوطنية، واستعادت القضية فاعليتها وتصدرها للمشهد المصري رسمياً وشعبياً، وحاولت مصر رأب الصدع الفلسطيني بين فتح وحماس، ولا تزال، وحددت الخطوط العريضة لمعالجة الانقسام، وأبدت تأييدها المتوازن لمطالب معظم الأطراف، في إطار الحرص على الوحدة الفلسطينية، التي تظل الناظم الأكبر والأوحد لفاعلية النضال الفلسطيني ومصداقيته على الصعيد الإقليمي والدولي.
والأهم من ذلك، هو أن مصر في دورها ومواقفها إزاء القضية الفلسطينية، لا تستثمر هذه القضية، كما تفعل العديد من الدول على الساحة الإقليمية لتعزيز مكانتها الإقليمية في صراعات المنطقة، أو تغذية مشروعاتها الإقليمية التي تستهدف تدعيم مصالحها وتعظيم مكاسبها، فمصر لا تمن على أحد بدورها ومواقفها، بل تعتبر أن هذه المواقف جزء لا يتجزأ من واجباتها ومهماتها إزاء نفسها وإزاء أشقائها الفلسطينيين، وترى أن ما قامت به حتى الآن، جزء مما يجب القيام به، حتى ينال الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وغير القابلة للتصرف، وفق المواثيق الدولية ومبادئ القانون الدولي، ووفق أسس حل الدولتين المستقر والمعترف به دولياً.
تحرص مصر على الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع كافة الأطراف الفلسطينية المختلفة، مع وعيها التام بأن هذه الأطراف ليست بالضرورة متساوية في القوة والشرعية، وهذه العلاقات تمكن مصر من القيام بدورها الحالي والمستقبلي في استنهاض القضية الفلسطينية، ومواجهة التحديات الراهنة، وذلك في ظل القيادة الشرعية والسياسية المعترف بها دولياً وعربياً.
الدور المصري إزاء القضية الفلسطينية، لا يتأثر بالمزايدات من هنا أو هناك، فهو متروك للشعب الفلسطيني والتاريخ ليقول كلمته، ولن تزيده المزايدات إلا إصراراً وتقدماً ففي النهاية، لا يصح إلا الصحيح، وذلك انطلاقاً من أن المسؤولية العربية في مصير القضية الفلسطينية، لا تقل أثراً عن المسؤولية الفلسطينية ومسؤولية المجتمع الدولي، وحل القضية الفلسطينية، محصلة تضافر وتفعيل هذه المسؤولية الثلاثية.
لم تفرض مصر وصياتها على القضية الفلسطينية والنضال الفلسطيني، بل وفرت غطاء سياسياً ودبلوماسياً على الصعيد الدولي للقضية، على ضوء ما استقرت عليه إرادة الشعب الفلسطيني، وفق المعطيات والمتغيرات الدولية والإقليمية، وسيظل هاجس مصر الأكبر، استعادة القضية الفلسطينية لزخمها الذي تستحقه، ولن يتأتى ذلك من وجهة النظر المصرية، إلا عبر وحدة الصف الفلسطيني، وإنهاء الانقسام، والالتفاف حول القيادة الشرعية السياسية.