لطالما حظي موضوع الإقبال على القراءة في العالم العربي باهتمام كبير، غير أننا شهدنا في الآونة الأخيرة تداول الكثيرين لمقولة غير مدعمة بأية إحصائيات علمية، مفادها أنّ «العربي يقرأ، بالمتوسّط، ست دقائق سنوياً» وهو ما يتنافى مع الواقع الذي يبرهن وفرة القراء الشغوفين في أرجاء وطننا العربي، وحتى بين أبناء الجاليات العربية في الخارج.
حيث إنهم يقبلون على قراءة شتى المواضيع عالية الجودة، والمنتشرة باللغة العربية عبر المنصات التقليدية والإلكترونية والمخصصة لاستهداف القارئ العربي.
في الإمارات، تشكل إمارة دبي سنوياً وجهة مهمّة لاجتماع القُرّاء بالكُتّاب من مختلف أنحاء العالم، احتفاءً بالكلمة المكتوبة في ظل «مهرجان طيران الإمارات للآداب» السنوي، والذي شهد في سنته التاسعة، والتي عقدت في بداية شهر مارس من هذا العام، إطلاق النسخة الأولى من «مؤتمر دبي الدولي للنشر».
وقد استمرت فعاليات هذا المؤتمر المتخصص في قطاع النشر على مدار يومين ونجح في استقطاب أكثر من 30 خبيراً من خبراء النشر عالمياً وإقليمياً للمشاركة في النقاشات والندوات الحوارية والجلسات المتخصصة.
بينما حقق «مهرجان طيران الإمارات للآداب» نجاحاً بالتوازي، حيث استقبل 40 ألف زائر وأكثر من 25 ألف طالب شاركوا في برنامجه التعليمي، إلى جانب مشاركة أكثر من 180 مؤلفاً وشاعراً من البارزين على المستوى الإقليمي والعالمي ضمن فعالياته التي امتدت ثمانية أيام.
الثابت الوحيد
إن الحضور الكبير والتفاعل الواسع الذي شهده هذا الحدث لَخير دليل على النَّهَم للآداب والقراءة في المنطقة، كما يعكس الاهتمام المتنامي بقطاع النشر، خاصة مع الإطلاق المتزايد للمؤتمرات والمبادرات المتخصصة في هذا القطاع.
وبينما يستمر التطور الطبيعي لصناعة واستهلاك الكتاب في أخذ مجراه، مضيفاً تغييرات مدعومة بالتقدمات التقنية، يظل الثابت الوحيد هو المحتوى. وفي ظل الانتشار الواسع والمتوفر بسهولة من خلال شبكات الاتصال لمحتوى معرفي شامل وعالي الجودة، ستتجه أنظار القارئ العربي بلا شك إلى المحتوى المحلي حاملاً توقعات عالية تخص جودة ومعايير المنتج.
وفي المنطقة يأتي إنشاء المحتوى الأدبي – والذي ما هو شائع - كنتيجة جهود العمل المباشر والمشترك بين المؤلف ودار النشر. وهذا بناءً على ما نشهده من تزايد للنشر الذاتي اليوم. وفي العالم الغربي تتضمن صناعة النشر الوكلاء الأدبيين الذين هم حلقة الوصل بين الناشر والمؤلف.
على الرغم من أن البعض قد يعتقد أن الأسلوب السابق للنشر يسمح بقدر أكبر من الإبداع، إلى حد ما، وسرعة في الإنتاج، إلا أن إيجاد معادلة توازن بين رعاية حرية الإنتاج الفني وضمان جودة المضمون عبر إرساء عملية نشر منظمة، هو العامل الأهم والأكبر لتمهيد الطريق لمستقبل أكثر جوهرية في الأدب العربي.
قدوة
يحظى تاريخ قطاع النشر في منطقة الشرق الأوسط بالتقدير والأهمية، بفضل مساهماته الكبيرة في تنمية ونشر المعرفة وتنشئة أجيال من المتعلمين والمثقفين والمبدعين. ولطالما حرص والدي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، على دعم وتشجيع قراءة وتناول الأدب والشعر والتعلم الذاتي. ولربما نستطيع أن نختصر رؤيته بجملة قالها في حديثه أخيراً، مع الكاتب العالمي الشهير باولو كويلو: «لا مستقبل بلا كتاب».
مشيداً بالفوائد الجلية التي قدّمتها دور النشر على مدى التاريخ، مضيفاً سموه: «لم تكن فقط دوراً للنشر بل أشبه ما تكون بالمقاهي الثقافية التي يجتمع فيها العلماء والباحثون والمفكرون والمترجمون من مختلف الديانات والأطياف والحضارات للنقاش والمناظرات».
ولا بد لنا من أن نفخر بتراثنا العربي في النشر والمعرفة، وأن نستكمل بناءه وتنميته. فمن خلال إدخال عنصري الابتكار والإبداع إلى الأسلوب التقليدي في إنتاج الكتب والنصوص المكتوبة، نكون أهلاً لمواكبة أحدث الاتجاهات والمستجدات في سوق النشر العالمي، إلى جانب تعزيز مفاهيم حب المعرفة والتعلم لدى الأجيال الناشئة.
قسوة وتفاؤل
ولكن، من الواضح أننا نشهد اليوم تراجعاً ملحوظاً لمكانة قطاع النشر في المنطقة. فقبل بضع سنوات فقط، أكدت صحيفة «الشرق الأوسط» أن العالم العربي يواجه أزمةً حقيقية في مجال النشر، نظراً لمحدودية الأسواق وانخفاض أعداد القرّاء. وتُشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن المنطقة العربيّة بأكملها تصدر كتباً أقل مما يصدره بلد أوروبي صغير.
وبالرغم من قسوة هذه الحقائق إلا أنه يجب علينا النظر لهذه الأرقام كفرصة وحافز لتقوية وتعزيز قطاع النشر العربي، وعلى الرغم من التحديات التي يواجهها هذا القطاع والتي من أبرزها الرقابة ومحدودية قنوات التوزيع وغياب قوانين حماية فعالة لحقوق المؤلفين وغيرها، فهناك مجال للتفاؤل خاصة، بفضل وجود عدد كبير من المؤلفين الشباب الموهوبين والناشرين ورواد الأعمال الذين يرغبون بتحسين مستقبل قطاع النشر في المنطقة.
فعلى مستوى دعم ورعاية الكتّاب، بزغ نجم العديد من الجوائز الأدبية مثل «الجائزة العالمية للرواية العربية» و«جائزة اتصالات لكتاب الطفل». فيما يستضيف «مهرجان طيران الإمارات للآداب» السنوي مئات المؤلفين والقرّاء تحت لواء منصة فريدة تهدف إلى مشاركة المعرفة وتحفيز النقاش والتعاون بين محبّي الأدب والمنتجين.
وينسجم هذا المهرجان مع الأهداف واسعة النطاق لدولة الإمارات، حيث يدعم استراتيجيتها الوطنية للقراءة للأعوام 2016-2026، كما يتماشى مع توجهات «خطة دبي 2021» الرامية إلى جعل إمارة دبي موطناً للإبداع والتمكين والسعادة.
نجاحات وتطوير لازم
وتبلغ اليوم قيمة سوق الكتاب العربي مليار دولار أميركي سنوياً، فيما تصل قيمة الاستثمار في صناعة النشر بالمنطقة إلى نحو 5 مليارات دولار سنوياً. كما أن العالم العربي يحتضن عدداً كبيراً من دور النشر.
حيث تعمل أكثر من 1000 دار نشر بدوام كامل، و1000 دار أخرى بدوام جزئي، منتجة نحو 450 ألف كتاب سنوياً معظمها للمدارس والجامعات. من ناحية أخرى، باتت معارض الكتب، مثل «معرض الشارقة الدولي للكتاب»، منصات ثقافية تجمع بين الكتّاب والناشرين والقرّاء، إلى جانب تقديمها لنموذج تجاري يتيح الكثير من فرص التسويق والتوزيع.
ورغم المعاني الإيجابية التي تحملها الإحصائيات والمبادرات المحفزة، إلا أنه لا يزال هناك مجال لتطوير محتوى الكتاب من حيث التنوع في المواضيع وجودة المضمون والمنصات المستخدمة، حيث تشكّل الروايات، وعلى مستوى أقل القصص القصيرة، غالبية المنشورات العربية – فعلى الرغم من أنها تمتلك قيمة أدبية كبيرة إلاّ أن هنالك هوّة في نشر الأدب غير الروائي في المنطقة.
وإذا استهدفنا هذا النقص، فسنقوم بمنح شريحة واسعة من الكتّاب والناشرين العرب، إلى جانب الأكاديميين، فرصة نشر وترويج كتب تتناول قضايا تشهد إقبالاً ونجاحاً ملحوظين في الأسواق العالمية، مثل مواضيع: العلوم والتكنولوجيا، القضايا الراهنة، الفنون والآداب، التنمية الشخصية. إلى جانب مواضيع قطاعية متخصصة أخرى.
حاجتان ماستان
ثمة حاجة ماسّة لمراجعة وتعديل الكتب التعليمية بشكل خاص، والتي تمثل دعامة أساسية لقطاع النشر العربي، حيث إن الأساليب المستخدمة في تطوير المحتوى ونقله للطلاب تحتاج إلى نهج جديد، وينبغي التعاون مع المؤسسات التعليمية والعمل على تطوير لغة قادرة على إشراك الشباب الذين هم أكثر ذكاءً، وأكثر ارتباطاً بالعالم الخارجي وتفاعلية من أي وقت مضى.
ولا يقتصر ذلك على المواد التعليمية فحسب، بل يشمل أيضاً اللغة التي نستخدمها في وصف وسائل التصميم والإبداع بشكل عام. إذ إن هناك العديد من المفردات الخاصة بمجال الابتكار والإبداع التي طَوّرها الغرب وقمنا بإدخالها كما هي إلى لغتنا واستخدامها في حياتنا اليومية.
ولذا يجب علينا هنا أن نولي اهتماماً أكبر لأهمية تمكّن لغتنا العربية من احتضان المفردات الجديدة وأدوات الحوار المستحدثة في القطاعات الإبداعية أو في غيرها من القطاعات، حيث إن هذا هو ما يتيح لنا إطلاق طاقاتنا الإبداعية ويساعدنا على التعبير عنها بالشكل الأمثل مع الحفاظ على لغتنا الأم كلغة أساسية.
خلاصة
يتحلّى قطاع النشر العربي بآفاق واعدة، ولكي يحقّق طموحاته ويستغلّ جميع إمكانياته الثرية، فهو يحتاج إلى أن يستند إلى نظام نشر محدّد وفعَال وشامل. إضافة إلى ذلك، يجب العمل على تنمية سبل التعاون الوثيق والفعالية بين الكتاب والمحررين ودور النشر من أجل تحقيق هدفهم المشترك، وهو إرساء منهج جديد، مبتكَر وتقدّمي لصناعة الكتب.
مواكبة واجبة وفاعلة للمنصات الرقمية
لا بد لنا أن نكون سبّاقين في مواكبة ثورة التطوّر التكنولوجي، لأن الكتب لا تقتصر على الشكل المطبوع فقط. فقد ساهمت التكنولوجيا الرقمية عالمياً في تعزيز انتشار الكتب الإلكترونيّة والصوتيّة، وإنشاء قاعدة قرّاء واسعة لها. ولذلك، يجب أن يدرس الكتّاب والناشرون أهمية إنشاء محتوى قابل للتوافق مع هذه المنصات والقنوات الرقمية الجديدة.
تغيير إبداعي قوامه الجرأة والانفتاح
ومن البديهي القول، إن علينا تبني إطار عمل تنظيمي مناسب وإرساء بيئة داعمة لرعاية الوسط الإبداعي العربي، ودفع عجلة نمو قطاعات النشر في المنطقة. ولكنّ جزءاً من هذه المسؤولية يقع أيضاً على عاتق الكتّاب العرب الذين لا بد لهم أن يكونوا في طليعة هذا التغيير الإبداعي من خلال تبنّيهم لمزيد من الجرأة والانفتاح في طرح الموضوعات، إضافة لتوطيد علاقتهم مع الناشرين والعاملين في المجال.
* محمد بن راشد داعم ومشجع دائم للقراءة والمعرفة وأبرز ما يجسد ويعكس رؤيته في الشأن قول سموه: «لا مستقبل بلا كتاب»
* «طيران الإمارات للآداب» يكرس دبي وجهة مهمّة لاجتماع القُرّاء بالكُتّاب من مختلف أنحاء العالم احتفاءً بالكلمة المكتوبة
* الحضور الكبير والتفاعل الواسع في دورة المهرجان الأخيرة يؤكدان النَّهَم للآداب والقراءة في المنطقة بموازاة الاهتمام المتنامي بقطاع النشر
*إيجاد معادلة تُوازِن بين رعاية حرية الإنتاج الفني وضمان جودة المضمون عبر النشر الممنهج ضمانة مستقبل أكثر جوهرية في الأدب العربي