بعد ثورة ١٩٧٩، اعتمدت إيران، للأسف الشديد، استراتيجية عدم تعاون مع دول العرب، التي احتفت بالثورة كلحظة تاريخية مفصلية ستفضي إلى تحقيق مصالحة مع العرب عموماً، تطوي صفحة سوء الفهم والتفاهم الشاهنشاهية.
بدل بسط يد التعاون للعرب، تبنت طهران تصدير الثورة إلى العالم العربي، بدءاً بالعراق، مع ما ترتب على سياساتها حياله من حرب استمرت ثمانية أعوام، لم تتخل بعد هزيمتها فيها عن مشروعها، بل عدلت وسائله، وشرعت تخترق المجال العربي انطلاقاً من سوريا، البؤرة التي استخدمتها لتعبئة وتجنيد وتسليح وتمويل شركائها في المعتقد داخل البلدان المجاورة، وخاصة منها لبنان والعراق، اللذين حولتهما إلى فصائل محلية مسلحة في حرسها الثوري، تحتل بلادها بالتنسيق مع نظام الأسد، الذي أسس حزب الله بالتعاون مع جنرال الحرس قاسم سليماني.
بنجاحها في تنظيم اختراقات فاعلة في مجتمعات ودول عربية معينة، بدأت طهران دمج تنظيماتها المسلحة وقاعدتها الأسدية بدرجات متفاوتة في الكيان السيادي الإيراني، مع احتفاظ الأسد الأب بقدر واسع من حرية القرار والحركة.
بعد تولي الأسد الابن السلطة، تغير الوضع وأخذ قادة إيران يرون في سوريا «المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثين».
من يتابع نمط وحجم تغلغل وانتشار طهران العسكري والبشري في دولة ومجتمع سوريا، سيعرف حجم التحدي الذي تواجهه لإدامة سيطرتها على مرافق مذهبية وأمنية وسياسية واقتصادية يرتبط وجودها فيها ببقاء بشار الأسد مفوضاً سامياً لها في سوريا.
كشفت الثورة حجم تبعية النظام السوري للملالي، ووعدت بتحرير المحافظة السورية من الاحتلال الفارسي، الذي انقض على حاملها، شعب سوريا، بكل ما لديه من قوة، وبادر لاتباع القرار الأسدي به، وتولى ضباطه إدارة معركته، بل وأقاموا قيادة خاصة بهم، تتمتع بحرية التصرف، في حال حدث ما لا يتفق وخطها المتشدد، القائم على سحق الثورة، مثلما حدث في طهران عام ٢٠٠٩، عندما سحق الأمن وشبيحته حركة شعبية احتلت شوارع المدن الرئيسة، قدر عددها ذات ليلة ب١٣ مليون إنسان.
بثبوت فشلها في القضاء على مقاومة السوريين، لجأت طهران إلى خطة مزدوجة: تعزز وجودها الميداني في محافظتها من جهة، وتخلي مناطق تتيح لها إبقاء طريق مزار الشريف / ضاحية بيروت الجنوبية في قبضتها، على أن تتمسك بها لأن قطعها يعني عزل حزب الله عن مركز إمداده،وتلاشي دوره كفصيل من حرسها الثوري، وتراجع قدرتها على التلاعب بقضية فلسطين، وخسارة المحافظة نفسها، وافتضاح أكاذيب الممانعة والمقاومة، التي تتعيش اليوم أيضا عليها، وارتداد المعركة إلى داخلها، في تصدير معاكس لثورة الحرية، التي ستفضح أسدية نظامها وطبيعته كنظام قاتل.
هذه السياسات، التي تمارسها طهران لفرض واقع يبقي سيطرتها في سوريا، أو يكون ثمنه قريباً مما يخدم هيمنتها عليها،ويضمن بقاء هلالها.
الغريب، أن قادتها لم يدركوا بعد أنه تمت تصفية الاستعمار رسميا منذ سبعينيات القرن الماضي، وأن تعزيز احتلالهم لسوريا وتهديدهم بتحويلها إلى فيتنام جديدة ليس سياسة مقبولة دولياً، وأن موقع بلادهم بين القوتين العظميين لا يحصنها ضد الركل والرفس، أو يجنبها الأثمان الباهظة، في حال تعارضت مصالحهما مع مصالحها، وهي متعارضة بلا شك حتى في حالها الراهنة، بما في ذلك مع مصالح روسيا ايضاً، التي لا يمكن أن تقبلها كشريك لها في السيطرة على سوريا ومرافقها الاستراتيجية، حتى إن وافق بشار الأسد على ذلك.
والآن، هل يسمح العالم بحل في سوريا يبقيها محافظة إيرانية ؟. أليس من الحمق أن يعتقد قادة إيران بواقعية هذا الاحتمال ؟. وأين تقع شرعية الاحتلال الإيراني لسوريا من قرارات مجلس الأمن ووثيقة جنيف واحد، التي ستنقل سوريا إلى الديمقراطية وتطيح بالأسد: اختراقها الطائفي / الاحتلالي، الذي سلمها البلاد والعباد دفاعاً عن كرسيه، وقبل أن يكون مندوبها في دمشق؟.
بدل أن تفكك إيران احتلالها، وتمد يد الأخوة والمصالحة إلى الشعب السوري، وتساعد على إزاحة بشار وسلطته، وتبادر لإقامة علاقات طبيعية مع سوريا الحرة، تعاند طهران القدر وتحاول التمسك بوضعها العابر، المرفوض سورياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، في بلاد لم تر شيئاً من أخوتها الإسلامية المزعومة غير تدمير عمرانها وقتل شعبها، علماً بأن استمرار الصراع سيخرجها من محافظتها بسقوط الأسد، بينما سيطردها الحل السياسي إلى حيث أتت، وسيرافقها الروس إلى آخر باب سوري إن انتصروا، أما الأميركيون فهم سيرافقونها إلى مزار الشريف وليس فقط إلى طهران.
ماذا تنتظر طهران في سوريا، إن كانت ساعة رحيلها عنها تقترب؟.