في القرن الماضي استطاعت الإذاعة أن تسهم في صناعة الغناء العربي التي لم يكن يدخل عالمها سوى المواهب الحقيقية التي كانت تخضع للجان التقييم التي قدمت لنا نجوماً في عالم الغناء من أمثال عبدالحليم حافظ وفايزة أحمد وطلال مدّاح ووردة الجزائرية، واستطاعت أن تقوم بدور مهم في زيادة وعي الجمهور الفني، وخلق قاعدة جماهيرية واسعة من المحيط إلى الخليج العربي تستمع إلى أم كلثوم وعبدالوهاب وفيروز وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وصباح فخري ووديع الصافي ومحمد عبده وصباح وفايزة أحمد ووردة والقائمة تطول.
ومع زيادة شعبية هؤلاء وتكرار أغنياتهم صار لهم جماهير مشتركة من المحيط إلى الخليج. وأصبحت الأغنية العربية أكثر الرسائل العربية شعبية وقدرة على توحيد الجماهير العربية، واستطاعت الأغنية بذلك أن تسهم في صياغة الوجدان العربي المشترك، وتؤثر في لغة الخطاب اليومي للإنسان العربي وباتت مفردات الأغنيات تتردد على أفواه الناس وتستخدم في حديثهم اليومي.
أما اليوم فإن الكثير من الأغاني الشبابية الجديدة التي ترددها الإذاعات والفضائيات العربية فارغة من المضمون وخالية من الشاعرية وتجد طريقها من خلال الفيديو كليب، وعبر الأفلام السينمائية وأقراص السي دي والدي في دي، وهذا النوع من أغاني الشباب يسهم في إفساد الذوق من خلال كلماتها الهابطة وفقدانها للشعرية التي كانت تمتاز بها الأغنية العربية حيث بات يغلب على كلماتها النزعة الفردية والغرق في أغاني الحب المهزوم وتحتوي على الكثير من المفردات غير اللائقة.
وعندما تسهم الفضائيات في ترويج هذا النمط السطحي من الفن الغنائي فإنها تسقط في شرك الاستهلاكية، إذ لا تتعب نفسها في وضع قواعد صارمة لما يذاع بهدف الارتفاع بالذوق العام، والارتقاء بالذائقة الشعبية، التي يمكن توجيهها والتخطيط لها عبر وسائل الإعلام المختلفة.
في الماضي كان نجوم عالم الفن يصنعون أسماءهم من خلال رحلة مضنية من الجهد والإنجاز والمعاناة، لكن اليوم تصنع الفضائيات نجوماً بلمح البصر، هواة يتسابقون ويصبحون نجوماً ويستقبلهم الآلاف حين عودتهم إلى بلدانهم وكأنهم فتحوا عكا، في الماضي كان النجم يحتاج إلى سنوات كي يصبح نجماً، ويحتاج إلى سنوات أكثر كي يعزّز نجوميته، مرحى لبرامج الهواة التي تصنع النجوم في لمح البصر، إنها تجارة رابحة للمحطات التي تمارس لعبة صناعة النجوم.
هل هذه المحطات يعنيها حقاً أن تحافظ على نجومية الشخصيات التي قامت بصنعها وتلميعها... أم أنها تكتفي بالملايين التي كسبتها من وراء مكالمات التصويت والإعلانات ورعاة البرامج؟ والتساؤل هو إلى متى سيبقى لهذه النجوم لمعانها؟
ولا نشك في أن بعض هؤلاء الفائزين يمتلكون مواهب حقيقية ويملكون شخصيات كاريزمية، والعديد منهم لم يأتوا من عالم الهواة فلهم تجارب ناجحة سابقة إذْ كان لهم حضورهم الفني في بلدانهم قبل أن تؤهّلهم برامج صناعة النجوم وتساعدهم على الانتشار، ولكن العديد غيرهم يُمثّلون نجوماً اصطناعية لا يمكنها أن تضيء كالنجوم باستمرار، فسرعان ما يخبو ضياؤها، بعد أغنية أو اثنتين، وفي عملية البحث عن نجوم جديدة، تقوم المحطات بالمبادرة لتبدأ دورات جديدة للبحث عن النجوم واصطياد جمهور المتابعين والمعلنين كي تسهم في ملء خزائن المحطات بدراهم التصويت والإعلانات.
وفي زحام الأصوات والأجساد التي باتت تطغى على الشاشات، لن يبقى إلا النجوم ممن يمتلكون الموهبة الحقيقية الذين يُشعّون في سماء الفن، ونعني أولئك المبدعين الحقيقيين الذين يعملون على تطوير أدائهم ويحترمون الفن والجسد معاً، بعيداً عن إسفاف الطارئين والعابثين، نحن نأمل أن يلعب هؤلاء الشباب والشابات الفائزون في المسابقات دوراً في تطوير الأغنية العربية فيختارون الكلمات الشاعرية والألحان الجميلة التي تساهم في صنع الوجدان العربي ويعيدون إلى عالم الغناء بهاءَه وقدرته على خلق جمهور عربي بذائقة فنية راقية مثلما كان ذلك في الزمن القديم زمن أم كلثوم وفيروز وعبدالحليم وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب وليلى مراد.