ليس مستغرباً أن ترد روسيا بعصبية وغضب على الضربة الأميركية ضد قاعدة الشعيرات الجوية قرب حمص، وأن تجد نفسها عاجزة أمام سؤال ما العمل، الذي يتعلق بنوع رد فعلها على ضربة أميركية، لا قدرة لديها على مواجهتها بأي رد فعل مباشر، مع أن عدم الرد يعني قبولها ما أحدثته من تبدل في معادلات الصراع والعلاقات الأميركية / الروسية، دولياً وفي سوريا والمنطقة، ومنها أن موسكو لم تعد الطرف الذي يقرر مصير سوريا والعلاقات والمصالح المتنوعة المرتبطة به، وعودة الكرملين إلى موقعه الحقيقي كطرف لن يتمكن من حماية الرجل الذي منحه حق احتلال بلاده، ونشر جيشه فيها، وعقد معه اتفاقيات طويلة الأجل، مدتها 49 عاماً.

هذه الانتصارات التي حققها الروس، ستسقط جميعها وستسقط معها نظرية تكون نظام دولي جديد بقيادة موسكو، التي كانت محض خيال، وأعادت الضربة أصحاب الخيال إلى صوابهم، وردتهم إلى واقع صنعه بؤس الضعفاء وتفكيرهم الرغبي.

غابت أميركا عن الحدث، فخال بوتين نفسه عملاقاً، وتصرف وكأنه سيد الكون الآمر الناهي، وعندما عادت من خلال ضربتها المحدودة، بان على حقيقته كرئيس دولة تتطلب مصلحتها أن تعيد النظر في حساباتها السورية والدولية، وتدرك عبثية رهانها على ابتزاز العالم بأخطاء أقنعتها أن بوسعها إركاع العالم عند قدميها، بفضل انفرادها بسوريا، الذي سيجبر واشنطن على الانصياع لتبدل يغير علاقات وموازين القوى الدولية، يضع روسيا في مرتبة موازية لأميركا.

لكن الضربة أخبرت سيد الكرملين أن يخيط بغير هذه المسلة، لأن واشنطن نستطيع تقييد دوره السوري إلى حد التهميش، وتستطيع انتزاع الورقة السورية من يده واستخدامها ضده إلى درجة مؤلمة، تقنعه أن وضعه أضعف من أن يجبرها على التعامل معه بالطريقة التي يريدها، بينما وضعه السوري سرابي إلى حد بعيد، يوفر له من مقومات التوازن غير السلاح، الذي به تتحداه الضربة، وتظهر أنه أشد عجزاً من أن يرد عليها.

بعد دخول سوريا، أخذ بوتين يستعرض عضلاته وينفش ريشه، وشرع منظرو العصر الستاليني يبيعونه أوهامه، باعتبارها حقائق صلبة، ويبدو أن بوتين: ضابط المخابرات السابق، الذي عبر مرات كثيرة عن حزنه لسقوط الاتحاد السوفييتي، ويتخيل أن روسيا بقيادته يمكن أن تثأر له، وتحل محله تحت اسم آخر، صدق هؤلاء الكذبة وانتشى بخطابهم.

لكن، وبما أن السياسات تستند إلى وقائع، وهذه لا تسمح له بالقفز عن خياله كقائد دولة تفتقر إلى جميع مقومات القوة العظمى، عدا السلاح، فإن أول رد فعل أميركي بعد دخول سوريا أرغمه على النزول من علياء تصوراته إلى أرض الدنيا، مع ما يصحب ذلك من هبوط إجباري من خيبة وغضب، وفي أحيان كثيرة، من فقدان رشد وعشوائية.

لا تستطيع روسيا مواجهة أميركا، ولن تستطيع حماية بشار الأسد، بعد أن قرر الكونغرس إلزام إدارة ترامب باعتباره «حاكماً غير شرعي ومجرم حرب»، وبالتالي، رفض بقائه في منصبه بأي صيغة من الصيغ، بما سيترتب على قراره من مواقف دولية جديدة حيال أطراف الصراع السوري، المحلية والإقليمية والدولية، وعودة عن قبول موقف موسكو من الأسد، الذي أقنع واشنطن بإبقائه في السلطة خلال فترة الحل الانتقالية، وتجديد انتخابه في ما بعد.

اليوم، بعد قرار الكونغرس وضربة الشعيرات العسكرية، لم يعد هذا ممكناً، الأمر الذي لا بد أن يذكر موسكو من جانبه بمحدودية قدراتها، وبأن التحدي الذي تواجهه في سوريا ليس عسكريا فقط، بل هو بالأحرى سياسي أيضاً، وأنها لن تتمكن بعد اليوم من إيجاد موقع للأسد في سوريا، وهنا الطامة الكبرى.

بانتفاء ردها العسكري، وقدرتها على حماية آلة الأسد العسكرية، وانهيار تفاهمها مع الدول الأخرى حول بقائه رئيساً للدولة السورية، تجد موسكو نفسها أمام تحديين كبيرين: ما العمل لوقف الآلة العسكرية الأميركية من جهة، ولاستعادة ثقة العالم بالأسد، كرجل يجب أن يبقى في موقعه خلال مرحلة الانتقال السياسي؟. هذه العودة إلى نقطة تكاد تكون صفرية لسياسات روسيا، هي ما استفز بوتين وأغضبه، ودفعه إلى الحديث عن انهيار النظام الدولي، وعلاقات موسكو بواشنطن، وتجميد تعاونهما العسكري في سوريا... إلخ.

دخلت القضية السورية، بالضربة الأميركية، إلى زمن مختلف، أرجو أن يكون زمن حل سياسي لوقف ذبح الشعب السوري وتدمير مجتمعه وعمرانه، ويمكنه من نيل حقوقه، التي قدم تضحيات هائلة من أجلها، كان آخرها شهداء خان شيخون بكيماوي الأسد.