لا شغل لنا غير لوم غيرنا على ما نمارسه من أخطاء ونواجهه من مصاعب.

هذا السلوك غير العقلاني يتبناه عادة العاجز الذي يفشل بسبب أعماله سيئة التخطيط، التي ينفذها وهو يتناحر ويتقاتل مع من يفترض أنهم شركاؤه.

لعله من أبرز ظواهر هذا السلوك اللاعقلاني لدى من يعتمدونه، إن كانوا من عسكريي الفصائل، إبلاغ أعدائهم بخططهم القتالية ومواعيدها، ومحاورها، وهوية وحجم قواها، وأسماء قادة وحداتها، ونوع الأسلحة المستخدمة فيها، مثلما فعل قائد فصيل ينتشر قرب حلب، عندما أخبر الروس والإيرانيين ومرتزقتهم بقرب قيام فصيله بعمل عسكري وصفه بالحاسم، قبل أن يشرح أهدافه التدريجية والنهائية، ويكشف عن أسلحته الجديدة، المتوفرة بأعداد كبيرة حسب قوله، ويبلغ من يهمهم الأمر بأماكن نشره والمواقع التي سيستهدفها، بل ويشرح «التكتيكات الجديدة» التي ستطبق خلال المعركة التي لن تشن من محور الكاستيلو التقليدي، بل ستبدأ من محورين جديدين، لأنها لن تكتفي بفك الحصار عن حلب المحررة وحدها، وإنما ستحرر مناطقها الخاضعة للنظام أيضاً.

لا داعي للقول إن أي ملازم «أسدي» يتابع فيسبوك هذا «القائد»، يستطيع ترجمة تبجحه إلى معلومات عسكرية ذات قيمة مهمة جداً للمعركة التي سيخوضها، وهو يعرف موعدها وطبيعة المعركة التي تنتظره، وحجم القوى التي ستشارك فيها، واتجاهات هجماتها الرئيسة، ونقاط انطلاقها وتلك التي ستمر بها وتستهدفها، والمواقع التي سيقصفها صاروخ «الجراد ٤٠»، والتدابير الضرورية لدحر المهاجمين، كتحصين مناطق هنا، ووضع عوائق هناك، والتمركز في المباني المرتفعة لتحقيق تقاطع نيران يغطي المناطق التي تطل عليها، وحشد قواته على محاور بعينها وإهمال غيرها... الخ.

قبل المعركة، تكون معنويات هؤلاء القادة في السماء وثقتهم بالنصر مطلقة، ويرفضون بطبيعة الحال أي نقاش أو نقد لما يعتزمون فعله، ويشككون غالباً في كل من يدعو إلى إدارة المعركة بقوى مشتركة تتخطى تنظيمياً وإدارياً الفصائلية والمناطقية وبالتالي فصائلهم وسواها، أو يتحفظون على ما يقترحه غيرهم من أساليب سيطرة ميدانية موحدة أو متكاملة على المعارك، أو ينبههم إلى نواقص وعيوب تشوب استعداداتهم، أو يطالبهم بغرفة عمليات مركزية تضع خططاً استباقية تبنيها على احتمالات المعركة المتباينة من ساعة لأخرى، عمادها هجمات تغطي الساحة السورية بكاملها، وتتم في وقت واحد تحت إشراف عسكريين مهنيين يسيطرون على الوحدات المشاركة فيها، ويتحكمون بمواعيد ومواقع أعمالها القتالية المقررة في خطة وطنية موحدة المهام، تنفذها بالتتابع والترابط قوات متكاملة القدرات والاختصاصات، ليست فصائلية ولا تقبل نمط التنظيم الفصائلي، لعجزه عن كسب حرب تخوضها على الطرف الآخر قوات عسكرية مدربة، جيدة التسليح، ومنضوية في تشكيلات مركزية القيادة كبيرة الحجم، لا يمكن للفصائل مواجهتها، بما أنها تتلقى دعم دول لا يقود جيوشها «أبوات»، بل جنرالات من أهل العلم والخبرة العلمية والميدانية، يطبقون خططاً سبق أن تدربوا على تنفيذها، ويمتلكون خيارات مدروسة يعرفون بدائلها، لا هدف لهم غير كسب الحرب كمعارك متدرجة ومترابطة، وليست غزوات متقطعة تتسم بالارتجال والعشوائية، يقودها مغرورون يضحون برجال يتسمون بقدر من الشجاعة والوطنية يثير الدهشة والاحترام، لكن عائد تضحياتهم يبقى محدوداً بسبب أخطاء قادتهم، التي تسبق في أحيان كثيرة المعارك وتتخللها وتترتب عليها، ويعود قسم كبير منها إلى بنية الفصائلية ورهانات عديد من قادتها من جانب، والجهل العسكري، وسوء التقدير السياسي والميداني من جانب آخر.

للحرب علومها التطبيقية وتقنياتها وتنظيماتها وأخلاقياتها وقوانينها.

وللغزو سوء التخطيط والتنفيذ والارتجال والعشوائية، وفي بعض الأحيان الافتقار إلى معايير وقيم الوطنية والأخلاقية، التي تمليها الحرب. لا عجب، والحال كذلك، أن تطيح عصبوية الفصائلية والمذهبية بتضحيات المقاتلين، وتخوض معارك تكلفتها أكبر بكثير من عائدها، أو أن تقلبها إلى مغامرات تهدر حياة رجال تحرص قيادات الحرب العسكرية عليهم، لاقتناعها بعدم جواز تحويلهم تحت أي ظرف إلى طعام مجاني للمدافع.

خلال الشهرين الماضيين، خاض المقاتلون معركتين كبيرتين: واحدة انتهت في دمشق، والأخرى مستمرة في ريف حماه.

أليس من العقلانية والحكمة تشكيل هيئة عسكرية مهنية تدرس خطط المعارك قبل خوضها، وتحدد مستلزمات نجاحها، وتلك التي خاضتها الفصائل، للإفادة من إيجابياتها وتحاشي سلبياتها، ولتطبيق الدروس المستفادة منها في إعادة تنظيم الأعمال القتالية والمجال العسكري، بحيث يصير منظماً وفاعلاً في معارك الفترة المقبلة: التي سيغلب عليها الطابع الدفاعي، لاحتواء تفوق العدو بالرجال والعتاد، وضمان تكيف المجال السياسي /‏ العسكري مع مستجدات قد تطرح أسئلتها علينا في أي يوم؟

لنمنع عدونا من اصطيادنا بأخطائنا، سواء منها تلك الراجعة إلى تبجحنا أو إلى التنظيم الفصائلي لقدراتنا، إلا إذا كنا نريد غزوات لا تشكل حرباً، وتستمر حتى آخر سورية وسوري!