في منتصف التسعينات، توليت مسؤولية قسم الشؤون المحلية وكان يعمل معي 14 زميلاً وزميلة في إحدى الصحف التي عملت بها وقتذاك.

اعتاد هؤلاء من بين أمور عدة على استخدام الهاتف المباشر الموضوع على مكتبي للرد على بعض المكالمات المستعجلة أو الضرورية لديهم.

لم تكن على مكاتبهم سوى هواتف ذات تحويلة داخلية ولم تكن الهواتف المحمولة منتشرة وقتذاك، وكان الجهاز الشائع في ذلك الوقت هو جهاز «المناداة – Pager» الذي كان البحرينيون يسمونه «بليب».

أحد المحررين الشبان اعتاد استخدام هاتفي المباشر بعد الاستئذان وكان هذا إلى يميني فيما هو يجلس على المقعد يسار الطاولة ويسحب الهاتف بأسلاكه نحوه جهة اليسار.

وما إن ينتهي من مكالمته يترك الهاتف مكانه. طلبت منه اكثر من مرة أن يعيد الهاتف إلى مكانه عندما ينتهي من استخدامه ويعدني دوماً لكنه لا يفعل، ينسى ويترك الهاتف مكانه. فعلها مراراً وتكراراً وكل مرة «أوه نسيت».

طلب الهاتف مرة وأذنت له وذكرته بشكل لطيف أن يعيده وغادرت مكتبي إلى مكان آخر وعندما عدت كان قد غادر الصحيفة إلى المنزل ووجدت الهاتف في غير مكانه وأسلاكه تغطي أوراقي على المكتب بشكل فوضوي للغاية.

اتصلت بعامل البدالة وطلبت منه أن يتصل به على جهاز المناداة 35 مرة بالتمام والكمال واحدة وراء الأخرى دون توقف وإذا اتصل أن يبلغه أن رئيس القسم يطلب حضورك فوراً لمبنى الجريدة لأمر عاجل وضروري للغاية لا يحتمل دقيقة تأجيل.

تم الأمر وإذا به بعد حوالي ربع ساعة يقف أمامي وهو بملابس النوم ويرتدي نعالاً منزلية ويلهث «خير استاذ.. عامل البدالة قال انك تريدني لأمر ضروري وطارئ».

وبكل هدوء طلبت منه أن يعيد الهاتف إلى مكانه. ذهل وسط ضحك مكتوم من بعض زملائه، احتج وعاتب لإزعاجه لأمر كهذا لكنه أدرك المغزى في النهاية.

تحولت هذه الواقعة لاحقاً إلى طرفة مسلية لكنني أستعيدها الآن مع سلوكيات جعلت تلك العادة السيئة لدى زميلي ذاك أمراً هيناً.

لقد كتبت هنا قبل شهور أن أهم ما تغير على مدى العقود الماضية هو الناس أصبحت أقل اكتراثاً تجاه بعضها وأكثر أنانية بشكل مفرط. وفي الحياة اليومية، ينعكس هذا في تصرفات وسلوكيات جوهرها عدم الاكتراث تجاه الآخرين: صفق الأبواب بضجيج عالٍ، تحريك الأشياء بأصوات مزعجة، الحديث بصوت عالٍ في المكاتب دون اكتراث للآخرين، عدم التنازل عن مقعد للسيدات في المترو، عدم تقديم السيدات للمرور، عدم شكر الآخرين وصولاً إلى فجاجة التصرف والتزاحم الأناني وانعدام الصبر وعدم إعطاء أولويات المرور مثلاً إلا مكرهين.

أسوأ ما في الأمر فهو أن هذه التصرفات لا تقتصر على جنسية معينة بل أصبحت معممة كما أنها لا تقتصر على الرجال دون النساء، بل أنني وجدت أن النساء والفتيات يصفقن الأبواب وراءهن دون اكتراث ويثرثرن مع بعضهن غير مكترثات لمن حولهن.

لقد مررت بقاعات خاصة للمسافرين في أكثر من مطار وفي كلها لم أستطع أن استمتع بلحظة هدوء إلا قليلاً.

لقد اعتاد العاملون في هذه القاعات وغالبهم آسيويون أن يقوموا بتنظيف الطاولات ورفع الأواني والصحون وهم يصدرون ضجيجاً يصم الآذان. بل حتى وهم في المطبخ يصدرون ضجيجاً عالياً لأن طريقتهم في العمل هي رمي وقذف الأشياء وليست تحريكها بهدوء.

الغريب في الأمر أن رؤساءهم لا يعتبرون هذا أمراً غير طبيعي بل أمر معتاد جداً.

لقد تطلب الأمر مني أن أسجل الأصوات التي يصدرها هؤلاء بواسطة هاتفي فقط لكي اقنع احد مسؤولي هذه القاعات بأن ثمة فارقاً بين رفع الصحون وبين قذفها على بعضها.

ربما أن لدى بعضكم أو غالبكم قصصاً مشابهة كثيرة، لكن بالنسبة لي فإن العبرة في هذه القصص بكل تفاصيلها المملة هو أمر واحد أيقنته بالتجربة وهو أن التسامح مع أي شكل من أشكال الخطأ مهما كان صغيراً سيقود إلى التسامح مع ما هو أكبر وأكثر من ذلك.

الدليل أننا مازلنا نتعامل مع أولئك الذين يبدون دقة في سلوكهم والتزاماً عالياً بقواعد حسن التصرف والكياسة تجاه الآخرين على انهم إما «متفلسفون» أو «بلهاء وسذج» في أحسن الأحوال، وبالتعبير الشعبي الدارج «يسوي روحه مثل الأجانب»، السبب لأن هؤلاء نادرون.

يتداول الناس قصصاً لا تنتهي عما يسمونه كوكب اليابان عبر الهواتف المحمولة لكنهم يمرون على العبرة في هذه القصص دوماً ويقفون فقط عند حافة الإعجاب والتداول لا أكثر ولا أقل.

أما سر اليابان وتميزها ومعجزاتها التي لا تتوقف فهو السعي نحو الكمال حتى في أدق التفاصيل الصغيرة وليس التعايش مع الأخطاء مهما صغرت.