في يونيو من عام 2012، زرت كوريا الجنوبية، رأيتُ من النهضة ما يبهر ويدهش، وكيف تحوّلت سيئول خلال خمسين سنة فقط إلى دولة من أقوى اقتصادات العالم، المدن التي أكلتْها الحرب، وأحرقتها النيران، وأصبحت قاعاً صفصفاً، نهضت من الرماد، وصنعت معجزةً باهرة.
أرتني إحدى الكوريات صورتين، بينهما نصف قرن، بإحداهما ترى التيه والفقر والاضمحلال، وبالأخرى ترى المدن وكأنها باحتفالٍ دائم، فالنور لا ينطفئ.
وحدث أن جلستُ مع خمسةٍ من صنّاع التحول هناك، وقد ابتدرتهم بسؤال: ما سر المعجزة بالتحوّل الكوري؟!.
أجابوني: التعليم، ثم التعليم ثم التعليم.
مقولة قد تبدو لأول وهلة جديدة علينا بمعناها، غير أنني وجدتُ هذه المقولة لدى أحد رموز الإدارة في السعودية، وقد تم تداولها هذه الأيام. إنه الراحل غازي القصيبي، الذي قال ربما قبل هؤلاء: «أي تنمية لا يمكن أن تصنع من دون تعليم، التعليم ثم التعليم ثم التعليم»!
هذه مقولة لوزير سعودي عرف تجارب العالم، وخبر كيف تنهض الأمم، ليست المعجزة الكورية وحدها من تلهمنا، بل حتى الهند، واليابان، وماليزيا، وسنغافورة، لقد كان التعليم هو الأساس بكل تلك النهضات المتعددة، ضمن ثقافاتٍ ليست متشابهة، بل لكل أمةٍ وجهة، ودين، وعرق، وثقافة، ولون.
لكن ما الأزمة التي تواجهنا في مؤسسات التعليم لدى الدول العربية؟!
لقد بدأ التعليم امتداداً للكتاتيب، ولم يأخذ شكل المؤسسة إلا بوقتٍ متأخر، بل يمكن وصف حتى بعض الجامعات أنها تعيش بمستوى تعليم الكتاتيب نفسه، لجهة عدم إيقاظ الأسئلة، أو التركيز على الاجتهاد، ودعم الإبداع. كل تعليم يقوم على التلقين والحفظ يعتبر امتداداً للكتاتيب ووسائل التعليم البدائية.
عمر التعليم ناهز القرنين لدى بعض الدول العربية، على مستوى المؤسسة، لكن العثرات لا تزال كامنة به، مما يجعله معيقاً للتنمية، بل وعبئاً على المجتمع والحكومة معاً، من أخطر الأساليب التي يلقّن بها الدرس اعتماد صيغة السؤال الثابت والجواب الثابت.
وبخاصةٍ بعلوم الآداب التي تحتمل الإبداع والتأويل والابتكار، هذه الصيغة تعوّد الطلاب على الأسئلة الأبدية، فيغدو سائلاً غيره عن كل صغيرةٍ وكبيرة، من دون إعمالٍ للعقل، ولا محاولة لإيجاد الجواب الخاص، والاجتهاد الذاتي لأية مسألة.
من مشكلات التعليم العربي ضعف صياغة الأهداف، بل بمحطات ومنعطفاتٍ تلاحظ انحسار دور التعليم، ليكون هدفه الأساسي «حراسة الثقافة القائمة» من دون إتاحة المجال للطلاب، بأن يصيغوا تصوراتهم الشخصية حول المجتمع، والفن، والمرأة، والجمال، والوجود، لأن الإجابة الواحدة التي تعمم على آلاف الطلاب، لحفظها.
ومن ثم كتابتها بورقة الاختبار، هذا لا يعتبر تعليماً بأي حال، بل مجرد تحفيظ الطلاب لما يعلمونه من أهلهم، ومن بيوتهم من دون الحاجة إلى الكتاب والمنهج، تعميم الأجوبة لأسئلةٍ محفوظةٍ أيضاً، وإلا ليتها أسئلة فلسفية وفكرية تُعمق من تبحر الإنسان بهذا العالم.
من أبرز نقاد التعليم العربي الراحل طه حسين، الذي عرف أسس التعليم من خلال رحلاته وتحديداً بتأثير الثقافة الفرنسية عليه؛ عرف معنى التعليم المنتج. لقد أثر فلاسفة فرنسا كثيراً على سياسات التعليم في بلدانهم، حتى إن (الكوجيتو) الديكارتي الشهير «أنا أفكر إذاً أنا موجود» أثر على المشهد كله، وبحسب الباحث المهم هاشم صالح، فإن فرنسا تأثرت بديكارت حتى بطريقة «ربط الحذاء».
التعليم الذي يراد له إنتاج عقولٍ تنهض بمجتمعاتها يحتاج إلى رفع سقف الأسئلة، وإنهاء أساليب تعليم الكتاتيب، وتخفيف موضوعات التلقين والحفظ، لتحفيز حركة العقل، لينشحذ الذهن، ليتوقد، ليكون فاعلاً منطلقاً.
إن أية معجزةٍ نريدها يجب أن تبدأ من التعليم.