هذا المقال تأجل قليلاً. كنت قد قررت كتابته الأسبوع الماضي قبل أن يذكرني موقع «فيسبوك» بمقال شبيه في فكرته وفحواه نشرته في "البيان" في يونيو 2012.

لكنني وجدت أن علي كتابته، أما الفكرة في المقالين القديم والجديد: لماذا يصر غالبنا على تذكر هزيمة 5 يونيو 1967 من دون تذكر أي حدث آخر شبيه مثل حرب أكتوبر 1973 مثلاً أو معركة الكرامة عام 1968 او حرب الاستنزاف طيلة 6 سنوات أو حتى معركة خلدة في اجتياح لبنان عام 1982 وانطلاق المقاومة اللبنانية؟.

 

في ذلك المقال وصفت هذا الاستدعاء بأنه «مناحة»، لأنه لا يزيد على كونه جلداً متجدداً للذات، ولكي لا يبدو هذا نوعاً من التعميم او التجني على محاولات البعض أو نواياهم، فإن هناك عدة ملاحظات على هذا الاستدعاء تبرر وصفه بأنه مناحة:

أولا: استدعاء ذكرى يونيو 1967 يتم فقط عبر التركيز على واقعة وحيدة هي ضربة الطيران المصري وكيف أن المقاتلات المصرية دمرت وهي على الأرض وكيف ضربت قواعد الطيران المصري ليصبح الجيش المصري في سيناء دون غطاء جوي.

ثانياً: يتم التركيز ضمن هذا السياق على القصة المتكررة نفسها حول خلاف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مع القائد العام للجيش عبدالحكيم عامر باعتباره علامة سوء إدارة وفساد والسبب الرئيسي في ضعف أداء الجيش وبالتالي تعرضه للمباغتة وضرب طائراته وهي على الأرض رغم كل المعلومات المتوفرة مسبقاً عن العدوان الإسرائيلي.

ثالثاً: على مر العقود الماضية ومع هذا الاستدعاء المتكرر ليونيو 1967، تخلو هذه الاستدعاءات من أي حديث أو معلومات حول ما جرى على الجبهة الأردنية مثلا واحتلال الضفة الغربية أو معلومات حول ما جرى على الجبهة السورية واحتلال هضبة الجولان.

رابعاً: لا يتم التطرق أبداً لا من بعيد ولا من قريب لمسألة قتل الأسرى من الجنود المصريين من قبل الجيش الإسرائيلي في تلك الحرب وهي جريمة حرب بكل المقاييس. حتى الكتاب المصريين وهم يستعيدون ذكرى يونيو 1967، لا يتطرقون أبداً إلى جريمة قتل الأسرى من الجنود المصريين في هذه الحرب.

إذاً، ماذا تقدم هذه الاستعادة السنوية لحرب 1967 طالما انها لا تتضمن معلومات جديدة أو تحليلاً جديداً ثمرة بحث ودراسة يمكن ان يشكل مدخلا لفهم أفضل لحدث تاريخي ولا تزيد على كونها تكرارا لسردية واحدة محورها عنصران اثنان فقط: ضربة الطيران وخلاف عبدالناصر وعامر.

إن قراءة التاريخ مطلوبة وضرورية في الغالب خصوصا مع أحداث كهذه، لكن ثمة فارقا كبيرا من استعادة التاريخ وبين تكرار سردياته. فالاستعادة إن لم تكن تنطوي على معلومات جديدة تأتي ثمرة لبحث ودراسة فإنها في الغالب ستصبح مجرد إعادة سرد للوقائع وليست تحليلا لها وخالية من أية قيمة إضافية. هذا بالضبط ما يجري مع استعادة ذكرى يونيو 1967: القصة نفسها تتم استعادتها بسياق التأسي والحسرات.

مع كل هذا التكرار لسردية يونيو 1967، يتم الالتفات عن تحليل وقائع الحرب من الناحية العلمية (أو بعيدا عن قصص الصراع السياسي الداخلي أو الإقليمي والخيانات والمسؤولية المفترضة للأطراف الدولية مثل روسيا) لحساب إعادة سردية سوء الإدارة والفساد وتأثير الخلاف السياسي على أداء الجيش فقط.

لست ضد استعادة التاريخ، لكنني ضد تكرار السرديات نفسها في سياق التأسي لا اكثر لأن هذا علامة مؤكدة خلل في التعاطي مع التاريخ. ففي الاستعادة المتكررة لحرب 1967 وضربة الطيران المصري مفارقة كبرى أراها تنم عن انتقائية شديدة لأن هناك قصة أخرى حول الطيران الحربي المصري جديرة بالتذكر هي معركة المنصورة الجوية التي جرت في 14 أكتوبر 1973.

ففي حرب اكتوبر 1973، شنت اسرائيل موجات متتالية من الغارات الجوية التي استهدفت القواعد الجوية المصرية في الدلتا شمال القاهرة خصوصا في طنطا والمنصورة والصالحية وأرسلت في 14 اكتوبر 165 مقاتلة من طراز فانتوم وسكاي هوك في غارة استهدفت قاعدة المنصورة الجوية فتصدت لها 62 مقاتلة مصرية غالبها من طراز ميج 21.

لقد عدت معركة المنصورة اكبر معركة جوية منذ الحرب العالمية الثانية حيث اشتبكت 180 طائرة إسرائيلية ومصرية في الجو وأسفرت عن إسقاط 17 مقاتلة إسرائيلية عن طريق المقاتلات المصرية.

فيما دمر الدفاع الجوي المصري 29 مقاتلة إسرائيلية أخرى. في المقابل اسقط الإسرائيليون 3 مقاتلات مصرية فقط وفقدت مقاتلتان جراء نفاد الوقود وتحطمت ثالثة لدى عبورها في حطام مقاتلة فانتوم إسرائيلية كانت قد دمرتها هذه الطائرة.

لماذا لا يتذكر أحد معركة المنصورة الجوية ولا يتذكر سوى ضربة الطيران المصري في حرب 1967 في سياق المناحة السنوية حول هزيمة 1967؟

لا شك لدي ان هذه الانتقائية تنم عن خلل كبير في كيفية التعامل لا مع التاريخ فحسب بل اكتساب الحد الأدنى من الحصانة النفسية أمام الوقوع تحت استحواذ الدعاية والحرب النفسية الإسرائيلية بل وخدمتها بشكل مجاني عبر تكرار سردية 1967 بالتأسي فقط وترسيخ الذاكرة المثقوبة بامتياز عبر نسيان كل ما هو نقيض يونيو 1967 وتجاوز له.