تبرز بين فترة وأخرى مشكلة حول "الأقصى"، فتغلق إسرائيل الطرق إلى ساحاته وحرمه، فيصاب بَعضُنَا بالغضب، وتبدأ الاتصالات، وتعيد إسرائيل فتح الدروب إليه.

وكأن الذهنية العربية ذهنية لا تفكر، ولَم تلتقط بعد ذهنية الإسرائيلي في التعامل مع القضية الفلسطينية.

منذ بدء الاحتلال اليهودي، نهاية القرن التاسع عشر، عبر ما اصطلح عليه الهجرة إلى فلسطين، والحركة الصهيونية وتالياً إسرائيل تتبع سياسة إشغال العربي والعربي الفلسطيني بالجزئيات كي ينسى جذر المشكلة وجوهرها.

مع الاحتلال البريطاني لفلسطين وتزايد عدد المستوطنين فيها، انشغل الفلسطيني أساساً بإيقاف الهجرة، ونادراً ما طرح عودة اليهود إلى الأماكن التي جاءوا منها، لا سيما أنهم ليسوا لاجئين بسبب احتلال أو خطر ما من دول الجوار أو غيرها، و لم يلتفتوا إلى بناء المستوطنات والكيبوتسات.

بعد إنشاء إسرائيل وقيام الهدن بينها وبين سوريا ومصر والأردن ولبنان الكبير، والتي تعني عملياً الاعتراف بإسرائيل، حولت المشكلة إلى مشكلة عودة اللاجئين.

قامت إسرائيل بحرب 1967، واحتلت أجزاء كبيرة من أراضي سوريا ومصر وما تبقى من فلسطين، فجعلت المشكلة بالنسبة للعرب إزالة آثار العدوان، وأشغلتهم باستعادة ما احتلته وهي تعلم بأنهم غير قادرين على ذلك بالقوة.

بعد احتلالها الضفة الغربية بدأت بزرع المستوطنات فيها، وبدأت المشكلة تأخذ طابع إزالة المستوطنات، حتى أوصلت الفلسطيني إلى المطالبة بإيقاف عملية الاستيطان وقضم الأراضي، ثم جعلت القدس مدينة موحدة عاصمة لها، فصارت القضية قضية القدس، ولجان عربية حول القدس.

وبعد ضم القدس بدأت تعمل على إشغال العرب والمسلمين بالأقصى عبر الحديث عن حق اليهود بجدار البراق والدخول إلى المسجد إلخ.

صارت قضية "الأقصى" هي القضية المركزية.تغيظ الفلسطينيين والعرب باعتداءات على الأقصى فيهبون معترضين ثم سرعان ما ترضيهم بالسماح للمصلين المسلمين بالصلاة في رحابه.

في اتفاق أوسلو فرضت إسرائيل على الفلسطيني أن تكون قضية القدس والمستوطنات واللاجئين لمباحثات الحل النهائي، التي لا يعلم أحد متى تبدأ و إن بدأت لن يعلم أحد متى تنتهي.

ها هي تشغل العالمين بحصار غزة، وتحول النقاش حول حصار غزة، فتمنع عنها الوقود ويبدأ الصراخ فتعيد الوقود.

كل هذا ماذا يعني؟ يعني أن العقل الاستراتيجي الحاكم لإسرائيل يسعى بكل خبث ودهاء وقوة أن يجعل من كل فلسطين، جغرافية دولته، وفرض الأمر الواقع انطلاقاً من التغيرات على الأرض من جهة، ومرور الزمن الطويل على هذه الإجراءات، من جهة أخرى، وإشغال العرب والفلسطينيين بالجزئيات كي ينسوا الكلي، مع عجز كامل على إحداث أي تغير على الأرض، وأي سلوك من شأنه أن يغير الذهنية الحاكمة لإسرائيل.

إذا كانت انتفاضة 1987 قد حملت إسرائيل على التفكير بإنهاء الانتفاضة عبر أوسلو فإن الذي حصل انتهاء الانتفاضة وأوسلو أصبحت في خبر كان.

غزة يحكمها الحماسيون ولن يتركوا السلطة فيها تحت أي مصلحة وطنية فلسطينية حتى لو لم تعد قابلة للحياة بعد ثلاث سنين.

السلطة في رام الله لا سلطة لها على أي أمر ولا سيادة وتدير أرضاً محتلة. والعرب يطرحون مشاريع الصلح دون أن يلتفت إليهم أحد، ووعود الرؤساء الأميركيين بالعمل على تحقيق حل الدولتين في بداية رئاستهم يخرجون بعد دورة أو دورتين من البيض الأبيض حاملين معهم وعودهم.

أما آن للعقل العربي والفلسطيني أن يفيق من سباته وعجزه ويفكر بتغيير قواعد اللعبة بدل أن يظل في لعبة يفرضها عليه عدوه؟