في مقالتي السابقة المعنونة بـ «سلطة الهندسة الثقافية وأهميتها في عالم الاقتصاد المعرفي»، قلت: إن الحديث عن الاقتصاد المعرفي عربياً هو شبه غائب تقريباً، لكن هناك نماذج يمكن ذكرها، كالإمارات العربية المتحدة التي بدأت في تبني بعض الأفكار المعرفية، منها مشروع الفضاء؛ وعام الابتكار، لتكون منصة لانطلاقة فكرية تعود بنا للعصر الذهبي، وكذلك رؤية محمد بن راشد المستقبلية في إنشاء متحف المستقبل.
كما قدمت في مقالتي تلك بعض الخطوط العريضة، لما يجب ولما لا يجب بخصوص الاقتصاد المعرفي، والصناعات الإبداعية؛ وهنا أضيف تفاصيل أشمل، وأكثر تركيزاً، على البيئة الواعية، وعلى مفهوم الهندسة الثقافية، في سبيل مواجهة التخلف البحثي، والمعرفي.
وإذا كانت الثقافة نتاج حركة المجتمع، على شتى صُعد الإنتاج، فهي، في الوقت ذاته، مرتبطة عضوياً بكل قوى الحياة التي تنتج نمو هذا المجتمع وتطوره.
والهندسة الثقافية تشمل كل مناحي الحياة، وكل مجالاتها، وقد نجد، بالضرورة، صراعات على كافة الصعدة، في كل عصر، بين قوى تجدد وتبدع وقوى ترفض وتحافظ، والحصيلة من إجمالي الآراء في ذلك الصراع هي الثقافة العامة، وهندسة هذا الصراع ثقافياً تعني أن يسير بطريقة معتدلة، ولا ينزاح نحو التطرف، مهما تأجج الصراع، بمعنى أدق، إن الهندسة الثقافية تخفف من سخائم الصراعات وتهذبها.
وبلا شك فإن الاستثمار في مجال الثقافة، بدون وجود وعي معرفي، وبيئة مثقفة متزنة في انفتاحها، ومتزنة في محافظتها، يعتبر مغامرة صعبة تشبه البحث عن القبّعة في دُنيا العمائم.
والوقت قد يطول نوعاً ما إذا كانت البنى التحتية لصناعة الوعي غائبة، لكن ورغم ذلك، يمكن إيجاد بدائل كثيرة، لتحقيق حالة أكثر وعياً وبيئة أكثر ثقافة، فالاستثمار أولاً يجب أن يشمل الجنسين ذكوراً وإناثاً، تقول سالي رايد، أول رائدة فضاء أميركية: «إذا أردنا علماء ومهندسين في المستقبل، فلا بد أن نستثمر في الفتيات بقدر استثمارنا في الفتيان».
إن امتلاك أي بيئة لوسائل الحداثة، يجعلها قادرة على مهمة خلق الوعي عن طريق التحفيز على الوعي والتثقيف بالترغيب، والترويج لذلك باستخدام أدوات ومظاهر التحديث، التي تمتلكها، فمثلاً سيتم الإقبال على الكتب، إن كان هناك حافز مهم يدعم الجمهور المتلقي، وسيحصل على امتيازات مشجعة، كذلك يمكن تخصيص درجات وظيفية لكل الطلاب الذين يلتحقون بالمعاهد الفنية، أيضاً يمكن إطلاق المسابقات العلمية والثقافية، وإطلاق مسابقات المنح البحثية، ورصد الدعم السخي من أجلها، وغير هذا من الأنشطة والبرامج التي تستطيع، خلق حالة أكبر من الوعي المعرفي، بالتحفيز ويستطيع أي مستثمر أن يصمم مشروعه المعرفي فيها بلا مخاوف.
ثمة فجوة قد حدثت بين العرب والعلوم والمعارف كانت قد بدأت في القرن الثاني عشر، ومع كل عصر كانت تتسع أكثر فأكثر، والبعض يعزو ذلك إلى عدم وجود تمويلات كافية، تلبي احتياجات مراكز ترجمة الكتب والمؤلفات العلمية والفنية وكافة المجالات المعرفية، وغياب مراكز الأبحاث، وغياب دعم الباحث العلمي، ليكرّس نفسه من ثمّ في سبيل الإضافة العلمية.
تقول الإحصاءات: إن العرب يساهمون في مجال البحث العلمي العالمي بمقدار 12 من 1 % من النسبة العالمية لمجموع الأبحاث التي تقدمها كل دول العالم.
إن وظيفة الهندسة الثقافية تستطيع أن تقدم مخططاً واضحاً محسوب النتائج المتوقعة واللا متوقعة، وهي قادرة على التصدي لكل المخاطر المتوقعة واللا متوقعة، فمثلاً تستطيع الهندسة الثقافية أن تقدم تصوراً للحل عن طريق الصناديق التمويلية، التي تتبع المؤسسات الحكومية، من أجل مساعدتها في تقديم الدعم الكافي للمراكز البحثية، والعلمية، ودعم شرائح كثيرة في المجتمع، وهذه الصناديق تعبير عن حس المسؤولية الجماعي، فميزانيتها مأخوذة من جميع المؤسسات في الدولة، وتكرّس نفسها من أجل خدمة شرائح يهم الدولة والمجتمع رعايتها، ولها الأولوية في نظرها.
بعض الدول العربية تنفق مليارات الدولارات، وبلا أدنى نسبة من الوعي، في سبيل دعم التطرف والتخلف، ولا تفكر ولا يخطر ببالها دعم البحث العلمي، ولو بنسبة 10% لتجد نتيجة ذلك على اقتصادها، بما يعادل أضعاف استثماراتها الأخرى، في كل الميادين.
بالمقابل نتساءل: ماذا لو أنفق هذا المال على إنشاء مؤسسات بحثية ومولت به الأبحاث العلمية، والابتكارات والصناعات الإبداعية، واختراعات المخترعين من الشباب في الوطن العربي؟
إن هذا السؤال المطروح لخلق حالة من الوعي هو جزء آخر، إضافة إلى الصناديق التمويلية، من أجزاء فهم طبيعة ما يعانيه المجتمع العربي، وما يحتاجه على ضوء منهجية الاقتصاد المعرفي والهندسة الثقافية.
نحن العرب لسنا في حاجة إلى عباقرة وعلماء أو حتى نملك من هم أهل ليكونوا كذلك، فلدينا ما يكفي من أهل الموهبة ومن المبدعين، ولكننا في أمسّ الحاجة لمن يقدم لهم الرعاية، ويقدم لهم كل ما يحتاجونه من دعم وتأهيل، ليكون مستقبل البلاد العربية أفضل بهم، وبعطائهم وأفكارهم، وطموحاتهم، التي حتماً هي أقدس ما تحتاجه البشرية في وقتنا الحاضر.
وللحديث بقية