من سنن الله في كونه أن يقيض على مدار التاريخ قادة لشعوبهم مصابيح تنير دروبهم ليتبينوا المسير ويعرفوا الطريق، لا يعرف اليأس لنفوسهم طريقاً مهما صعبت المهام وثقلت الأحمال وناء بثقلها الأشداء من الرجال، يرون المستحيل بضاعة العاجزين لكنه لهم ميدان عمل وعرق وبذل، لا يفزعون حين يفزع الناس ولا تنال منهم الشدائد مهما عظمت، والخطوب مهما تواترت، لكن رباطة جأشهم عنوان يمنح غيرهم السكينة والهدوء في أصعب الأحوال، قلوبهم اتسعت للدنيا بأسرها فكانت لشعوبهم أرحب، ونفوسهم سمت على كل الدنايا فكان التسامح غرسهم، وعلى دربهم سارت شعوبهم، فأسسوا للتسامح دولة، وللعطاء عاصمة، وللإنسانية مدرسة تؤسس معاني الأخوة والرحمة والبذل وحب الخير والغير.
فكلنا خلق الله، والأرض أرض الله، والرزق بيده والملك يهبه لمن يشاء، فكان لهم في القيادة فكر ومنهاج، وأسسوا القيادة بالحب والعطاء، فكان رد شعوبهم عليهم كما الصدى حباً بحب وعطاء بعطاء، وارتبطوا بهم بحبل من المودة فاقت قوته كل قوة، فكانت قوة المحبة والفكرة سابقة على فكرة القوة في كل الأعمال، سارت شعوبهم خلفهم كما الأبناء يسيرون خلف الأب الحاني الذي لا يريد لابنه إلا العزة والكرامة والمستقبل المشرق.
مع كل يوم جديد كان البناء يرتفع والتنمية تتسع، لم يتحدثوا لشعوبهم بلغة الأرقام والنسب والمعدلات، النظريات التي تتوه معها الحقائق، لكن كان الواقع خير شاهد، وكان تجويد الحياة وتيسيرها وإسعاد أبنائهم غاية كبرى مدادها إرادة فاعلة وعمل دؤوب وجهد لا يكل ولا يمل، وعندما أراد الله لها أن تغيب عن دنيا الناس لم تغب ذكراهم ومآثرهم عند شعوبهم، بل ازداد تعلقهم بهم، كانت دولة الحب والعطاء شامخة البنيان تحوطهم حنايا القلوب، وسيرتهم ومسيرتهم باقية ساطعة تلهم أبناء الشعب ومن خلفهم ممن تربوا في مدرستهم فاستكملوا المسيرة وحملوا الراية، ومع كل إشراقة شمس كانت بشريات الخير ونسمات الهدى تزيد، هكذا كان طيب الله ثراه الشيخ زايد، وكأن لكل من اسمه نصيب زايد، ذلك الاسم الذي لم يكن رسماً فحسب بكل كان فعلاً وعملاً وواقعاً معيشاً.
إن احتفاء الإمارات قيادة وشعباً بأن يكون عام 2018، والذي يصادف الذكرى المئوية لمولد طيب الله ثراه، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، «عام زايد»، لا شك أنه يحمل رسالة في الحب والوفاء برائد من رواد النهضة في العصر الحديث، وهو إرث لا يخص أبناء الإمارات وحدهم لكن أبناء أمتنا العربية، والإنسانية بحاجة إلى الوقوف أمامه بتأمل كبير باعتباره قائداً فذاً، استطاع أن يؤسس لتجربة وحدوية فريدة غيّرت وجه منطقة من العالم، واستطاعت أن تتبوأ مكانة متقدمة بين الدول، وما زالت تؤكد كل يوم جدارتها، وتنمّي مكتسباتها، وترتقي بشعبها، وتوثق عرى اتحادها، لأنها على خطى المؤسسين سارت، ومن مدرستهم تعلمت، ومن فيض حكمتهم اقتبست، فحافظت على ميراثهم، ونمت وزادت حتى صارت الإمارات منارة بين الأمم وتجربة رائدة ومتجذرة قوية الأركان عظيمة البنيان.
إن «عام زايد» ليس احتفاء بذكرى قائد متفرد أسس لنهضة شاملة، لكنه إرث حضاري وإنساني حق للأجيال أن تستفيد منه، وأن تنهل من علمه وحكمته، كما يمثل قوة دافعة وملهمة لأبناء الوطن لاستكمال مسيرة النصر والسير على ذات الدرب.
الذي يتضح لنا يوماً بعد يوم أنه درب الخير والسعادة والنماء.
إن «زايد الخير» الذي رأى منذ البدايات أن الإنسان هو الأساس، وأن بناءه أهم من بناء المصانع، فكان أن جعل من الاستثمار فيه أولوية تسبق الأولويات، وأنه الثروة الحقيقية التي لا تنضب، وأن العلم هو القاطرة التي تقود إلى التقدم، وأن العمل الجاد المستمر القائم على التخطيط هو السبيل لتحقيق الإنجازات، وأن معرفة الطريق وتحديد الهدف أولوية تسبق امتلاك الموارد رغم أهميتها، إلا أن الفكر الإنساني المستنير والإرادة والتصميم هما الأساس وهي التي تعظم استخدام الثروة ذاتها.
إن قيادة زايد وإرثه الحضاري لا يتوقف عند إنجازاته الحداثية، وهي عظيمة، غير أنها تتعدى ذلك إلى قيمة أخلاقية في القيادة العالم أشد ما يكون حاجة لها، إنه تراث أخلاقي في القيادة، حرص على إغاثة الملهوف ومد يد العون لكل محتاج مهما بعدت المسافات انطلاقاً من التزام أخلاقي، يرى أن من قيض الله لهم قيادة الشعوب واجبهم الحنو عليهم والالتزام بحاجتهم والسير بهم في طريق الخير والنماء.
إن مدرسة زايد في الحكم والحكمة ستفتح أبوابها في هذا العام لتكشف عن المزيد من مكنون عطاياها، ولتظل ذكراه خالدة في القلوب والنفوس، فطوبى لمن أسس وبنى، وطوبى لمن حافظ ونمى، وطوبى لمن أحب رمال الوطن.