لسنا في حاجة إلى تأكيد أن الإنسان وحده هو صاحب حضارة لأنه ذو خيال ويغامر ويتعلم من تجارب الآخرين، ومن هذه التجارب والأخطاء والنجاحات أصبح الإنسان - وحده من دون الكائنات ـ صاحب حضارة ولعل أول نقلة حضارية للجنس البشري قد تحققت مع ما عرف بالثورة الزراعية قبل نحو ثمانية آلاف سنة وبعدها نقلة نوعية أخرى في الثورة الصناعية منذ أقل من ثلاثة قرون.

والتي بدأت في الجزر البريطانية ومنها انتقلت إلى باقي الدول الأوروبية.

لقد قامت الثورة الصناعية منذ النصف الثاني للقرن الثاني عشر في إنجلترا بوجه خاص ومنها انتقلت إلى باقي الدول الأوروبية. وكانت إنجلترا معمل تجارب للعالم في هذا الميدان الجديد للصناعة وبالتالي تمتعت بفرصة التجربة والخطأ لتحقيق التقدم دون خشية من صناعة منافسة خارجية. ومن إنجلترا انتقلت الصناعة إلى باقي الدول الأوروبية بشكل متدرج.

وجاءت الموجة الثانية للتصنيع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر خاصة في الولايات المتحدة الأميركية واليابان مع حكومة اليجي وقد حققت كل من هاتين الدولتين نجاحاً باهراً في التقدم الاقتصادي، فالولايات المتحدة الأميركية هي أكبر اقتصاد في العالم الآن، كما تأتي اليابان في المركز الثالث عالمياً.

فما هي أسباب النجاح في كل منهما رغم الاختلافات الشديدة بين الدولتين فإن الولايات المتحدة ليست مجرد دولة بل تكاد تكون قارة وهي تتمتع بموارد أولية هائلة من أراضٍ زراعية إلى مناجم لجميع المعادن وتنوع مناخي يسمح بتوافر جميع الموارد المتاحة للاستغلال.

حققت الولايات المتحدة واليابان نجاحاً اقتصادياً باهراً نتيجة لما حققته كل من الدولتين من تقدم في الصناعة، فالصناعة والتقدم التكنولوجي بوجه عام هو السبيل الوحيد للتقدم، ولكن السؤال هو: أي نوع من الصناعة؟ هنا نجد أن تجربة كل من الولايات المتحدة الأميركية واليابان قد اختلفتا في مرحلة البداية، فمنطق التصنيع في الولايات المتحدة الأميركية كان مختلفاً ـ عند البداية ـ عن منطق التصنيع في اليابان.. كيف؟

بدأت الولايات المتحدة التصنيع لإحلال الواردات وإشباع حاجات السوق المحلية واستخدام الموارد الأولية المتنوعة والمتاحة على اتساع الولايات المتحدة، وكانت قادرة ـ بذلك ـ على اجتذاب رؤوس الأموال الأوروبية لاستخدام الموارد الهائلة والمتاحة في هذه القارة..

ومن هنا عرفت الولايات المتحدة ما عُرف بالعزلة، فهي قارة تكاد تكون مكتفية ذاتياً ولا تريد أن تتورط في مشاحنات ومناورات الدول الأوروبية وصراعها حول المستعمرات.

ومن هنا فقد ظلت الولايات المتحدة وحتى الحرب العالمية الثانية تأخذ بنوع من العزلة عن قضايا العالم ومشكلاته وتتمتع باستخدام رؤوس الأموال الأوروبية التي تأتي للإفادة من الموارد الطبيعية المتاحة لها..

اليابان فقيرة في الموارد الطبيعية، وأهم عناصر الثروة لديها هي العنصر البشري الجاد والملتزم، ولذلك لم يكن أمامها سوى التصنيع من أجل التصدير، وميزتها الرئيسية هي الكفاءة والدقة في الإنتاج، ولذلك، فإن اليابان وعلى عكس الولايات المتحدة بدأت التصنيع من أجل التصدير، وبالتالي أدركت منذ البداية أن الضمان الوحيد لبقاء أسواقها في الخارج هو الكفاءة في الإنتاج والتنافسية في الأسعار.

ومن هنا فلم يكن أمام اليابان من باب للتصنيع إلا فتح الأسواق الخارجية، والإنتاج بأعلى معايير الكفاءة وبأسعار معقولة. وإذا كانت اليابان قد نجحت في هذا الطريق ـ رغم فقرها في الموارد الطبيعية ـ فقد عوضت هذا بالكفاءة في الإنتاج والمنافسة في الأسعار.

وإذا كانت اليابان قد نجحت في هذه التجربة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن أسلوب التصنيع من أجل التصدير قد انتشر في معظم الدول الآسيوية رغم أن بعضها يتمتع بموارد طبيعية كثيرة ومتنوعة. فماليزيا وكذا إندونيسيا تتمتعان بموارد طبيعية هائلة، ولكنهما ـ مع ذلك ـ أخذا بسياسة التصنيع من أجل التصدير لما يتضمنه ذلك من ضمان الاحتفاظ بكفاءة الإنتاج وتنافسيته.

وبالمثل، فإن كوريا الجنوبية، وهي تتقارب في ظروفها مع اليابان، فقد عمدت هي الأخرى على الأخذ بالتصنيع من أجل التصدير، حيث إن هذا الاتجاه يضمن الاستمرار في زيادة الكفاءة الإنتاجية.