في العام 1950 أنشئ المعهد الهندي للتكنولوجيا وبعد عشر سنوات أي في 1961، قرر رئيس وزراء الهند وقتذاك جواهر لال نهرو إنشاء المعهد الهندي للإدارة. غالب السياسيين الهنود ممن كانوا حول نهرو سخروا بادئ الأمر منه عندما قرر المضي قدماً في إنشاء هذه المعاهد. قالوا له «هل تريد منافسة معاهد التكنولوجيا والإدارة في دول الغرب؟».
تذكرت هذا الفصل الصغير من تاريخ الهند وأنا أطالع الصفحة الثامنة من عدد جريدة «البيان» ليوم الاثنين 2 أكتوبر بعنوان رئيس يقول: «الهند ضيف شرف القمة العالمية للحكومات». لكن ما استوقفني تحديداً هو العرض الجرافيكي أسفل الصفحة حول الشركات العالمية الكبرى التي يترأسها مديرون تنفيذيون هنود تخرجوا من جامعات هندية. ففي هذا الجزء كان هناك ثمانية من مديري الشركات العالمية الكبرى من الهنود تخرج أربعة منهم (أي نصفهم) من معاهد التكنولوجيا الهندية واثنان تخرجا من معاهد الإدارة (في كلكتا وفي أحمد آباد). أما الاثنان الباقيان فأحدهما خريج معهد «بيرلا» للتكنولوجيا والعلوم الذي أنشئ عام 1955 في مدينة رانشي والثاني خريج الجامعة العثمانية (نسبة لمؤسسها مير عثمان علي خان) التي تأسست عام 1918 في حيدر آباد.
هل وصلت العبرة؟ ثمة أكثر من عبرة ودرس في قصة معاهد التكنولوجيا ومعاهد الإدارة الهندية، والسطور السابقة حول مديري الشركات العالمية ليس سوى نتيجة شاخصة: ستة من أصل ثمانية هم من خريجي معاهد التكنولوجيا ومعاهد الإدارة الهندية تلك التي سخر منها بعض السياسيين الهنود. ثمة أربعة دروس على الأقل في قصة معاهد الإدارة ومعاهد التكنولوجيا الهندية أولها «الرؤية» وأهمها «الصبر» وأكثرها أهمية «البناء على ما هو قائم» و«التطوير المستمر».
لقد كان مسار النمو الذي اختطه نهرو وسار عليه خلفاؤه عسيراً ومليئاً بالتضحيات وكان معدل نمو الاقتصاد الهندي قد بقي لعقود طوال أسيراً لنسبة 3% التي كانت موضع سخرية الاقتصاديين الهنود أنفسهم (كانوا يسمونها نسبة النمو الهندوسي). لكن عندما أفاق العالم في بدايات الألفية الثالثة على قفزات النمو الهائلة للاقتصاد الهندي بمعدلات بلغت 9% ووصلت أحياناً إلى 11%، اكتشف العالم حقيقة أخرى حول أولئك الذين يقفون وراء هذا النمو الهائل: جيل من خريجي معاهد الإدارة ومعاهد التكنولوجيا الهندية تلك التي كانت موضع تندر أولئك المحيطين بجواهر لال نهرو. هنا تشخص عبرة «الرؤية» وعبرة «الصبر».
لقد نشأت معاهد التكنولوجيا ومعاهد الإدارة الهندية بتوصيات من لجان تخطيط حكومية. ففي العام 1946، خلصت لجنة خاصة معنية بدراسة إنشاء معاهد تقنية للتعليم العالي إلى ضرورة إنشاء هذه المعاهد ضمن خطة للنهوض الاقتصادي في مرحلة ما بعد الاستقلال.
أما معاهد الإدارة الهندية فقد نشأت بناء على توصية من لجنة التخطيط الحكومية. كان بإمكان أولى حكومات الاستقلال - الذي أنجز عام 1948 - أن تشيح بوجهها عن تلك التوصية بإنشاء معاهد التكنولوجيا التي تعود إلى العام 1946 بحجج شتى باعتبارها من ميراث حقبة الاستعمار الإنجليزي، لكنها قررت المضي قدماً في ذلك وأنشأت أول معاهد التكنولوجيا عام 1950. الأهم أن إنشاء هذه المعاهد لم يتوقف رغم تعاقب حكومات مختلفة على حكم الهند من مختلف الأحزاب والتوجهات لأن الجميع يدرك ويؤمن بالأهمية الحيوية لهذه المؤسسات التعليمية وأن التعليم لا علاقة له بالسياسة بل باحتياجات النمو الأساسية للبلد، وهذه هي عبرة «البناء على ما هو قائم».
لقد توالى إنشاء معاهد التكنولوجيا الهندية ليصل مجموعها حتى العام 2008 إلى 15 معهداً موزعة على مختلف ولايات الهند، فيما أعلنت الحكومة الهندية عزمها إنشاء ثلاثة معاهد جديدة. أما معاهد الإدارة فقد بلغ مجموعها 20 معهداً حتى العام الماضي 2016. هنا عبرتي «البناء على ما هو قائم» و«التطوير المستمر».
إن الهند ليست خزانة بشرية بعدد سكان تجاوز المليار فحسب وهي بالتأكيد ليست كل هذه العمالة الرخيصة المنتشرة لدينا، إلا أن الدرس الأساس هنا هو أن النهضة والنمو تحتاج لما هو أكثر من القادة من أصحاب الرؤى. فإلى جانب الإصرار، تحتاج النهضة إلى الصبر ومراكمة التقدم ومن المؤكد أنها تحتاج إلى إيمان قوي لا يقتصر على القادة والإداريين فقط بل يجب أن يشمل الناس أنفسهم. هل نبدو هنا كمن يتصفح كتاباً مدرسياً مليئاً بالمواعظ حول النهضة؟
حسناً، لنرَ الأمر من مكان آخر. قبل سنوات، قصدني شاب عربي أعرفه طالباً مني أن أساعده على الحصول على وظيفة حارس بناية أو نادل في مطعم. سألته عن شهادته، فقال لي إنه خريج معهد تكنولوجي في إحدى محافظات بلده البعيدة عن العاصمة. ولكي يبدد علامات الدهشة التي ارتسمت على وجهي، قال لي إنه لا يفهم شيئاً مما درسه. السبب: كان المدرسون يحضرون للمدرسة صباحاً يثبتون حضورهم فقط ثم ينصرفون إلى مصالحهم. هنا العبرة المأساوية عن «الإيمان» بالواجب والغايات التي يجب أن تشمل الناس لا الحكومات فقط.