كان اليابانيون الذين يعدون أكثر شعوب العالم تهذيباً، قبل العام 1945 أي حتى استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية، شعباً متخماً بالروح العدوانية التي قادته إلى ارتكاب فظاعات كبيرة في دول عدة أثناء تلك الحرب.
كيف حدث هذا التحول الكبير؟ لقد ارتكب اليابانيون خلال الحرب فظاعات في كوريا لا تزال تبعاتها باقية وتتمثل في مطالبة آلاف من النساء الكوريات اللواتي أجبرن على ممارسة البغاء في معسكرات الجيش الياباني أثناء احتلال شبه الجزيرة الكورية. يقول الكوريون إن حوالي 300 ألف امرأة تعرضن لهذا المصير مات غالبهن في المعسكرات أثناء الحرب.
في الحقيقة، ارتكب اليابانيون فظاعات مماثلة في كل الدول التي احتلوها أثناء الحرب مثل الصين، الفلبين، إندونيسيا، الهند الصينية (فيتنام ولاوس وكمبوديا)، الملايو، سنغافورة وبورما. لقد تصرف الجيش الياباني في هذه الدول مثل كل الجيوش الاستعمارية والمقارنات هنا لا تتم إلا لقياس درجات القسوة في تصرفات الجيوش الاستعمارية.
هل يستقيم ماضي اليابان هذا مع حقيقة يقر بها الكثيرون اليوم بأنهم أكثر شعوب العالم تهذيباً؟ بالطبع لا وفي الأمر سر يقرب من أن يكون معجزة فما هو؟ إنه «التعليم».
لقد خاض اليابانيون منذ القرن التاسع عشر نفس الجدل الذي خاضته أمم أخرى من قبل وحتى اليوم، أي «جدل التعليم والأخلاق». ففي أي نقاش وطني حول أي ظاهرة جماعية خصوصاً تلك المتعلقة بالسلوكيات العامة والمفاهيم السلبية أو المعيقة أو حتى بعض مكونات الثقافة الشعبية التقليدية، يبرز حل أخير دوماً: «التعليم». يحدث هذا عندنا وعند الآخرين على حد سواء.
فعلى سبيل المثال، تعرضت مناهج المدارس اليابانية للتعديل المستمر منذ نشأة أول وزارة للتعليم عام 1871، وتأثرت المناهج أيضاً بالغايات والأهداف الكبرى للدولة. لقد كانت التربية الأخلاقية حاضرة دوماً منذ البداية، سواء عبر تدريس بعض مبادئ الكونفوشية أو تعزيز القيم الوطنية وإدخال التدريب العسكري في فترة الصعود الإمبراطوري لليابان (أواخر القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية). وفي أواخر الثلاثينات وبداية الأربعينات، كان التطوير الذي أدخل على بعض المدارس المتخصص يستهدف «خلق فئات مهنية» وليس «طبقة مثقفة».
لكن الموضوع هنا لا يتعلق بغايات فلسفة نظام التعليم بقدر ما يتعلق بقدرة أي نظام تعليم على التأثير في أخلاقيات وسلوك شعب بأكمله مثلما هو الحال مع اليابانيين. فما هو السر؟
يرى بعض التربويين أن التقدم والازدهار بشكل عام غير ممكن دون منظومة أخلاقية تسانده، يصدق هذا بشدة على مثالنا هنا كما على ألمانيا أيضاً. لكن كيف أمكن للتعليم أن يعيد بناء منظومة أخلاق اليابانيين على هذه النحو الفارق، أي من شعب يملك قدراً كبيراً من النزعات العدوانية إلى أكثر الشعوب تهذيباً واحتراماً للآخرين؟
وأياً كانت وجهات النظر حول أسباب هذا التحول والمعجزة الاقتصادية، يمكن المحاجة هنا بأن في تجربة اليابان عنصراً آخر وثيق الصلة بالثقافة اليابانية نفسها وهو السعي للكمال. إن هذه الخاصية تكاد تكون عنصر التفوق الأول لليابانيين مقارنة ببقية شعوب العالم، فالسعي للكمال يظهر دوماً في الإتقان الشديد في كل ما له صلة بالحياة اليابانية.
السعي للكمال له مقابل آخر أو أكثر أو بالأصح يستلزم قيمة أخرى هي «الانضباط». لن يحتاج المرء إلى تذكير أو شروحات هنا حول اليابانيين ومدى انضباطهم في العمل، لكن من المفيد أن نتذكر (على سبيل تأكيد بعض خواص مشتركة) أن العاملين الألمان في قلب الصناعات الألمانية في إقليم الروهر كانوا يداومون في أعمالهم حتى يوم إعلان استسلام ألمانيا. القيمة الكبرى للثقافة المحلية تتضح عند الحديث عن بلدين مدمرين مهزومين تمكنا خلال 3 عقود من أن يملكا اثنين من أكبر الاقتصادات في العالم.
إن الأخلاق ظلت حاضرة دوماً مع التعليم، فهؤلاء اليابانيون الذين يدهشوننا لفرط تهذيبهم الجم، تلقى أسلافهم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تعليماً بقيم مختلفة قليلا لم يمنعهم من شن الحروب على الآخرين وارتكاب الفظاعات. ونظام التعليم في الحقبة النازية في ألمانيا والحقبة الفاشية في إيطاليا واكبه تدريس للأخلاق كما يراها النازيون والفاشيون. حتى في الديمقراطيات الغربية، فإن تلازم الأخلاق والتعليم لم يجعل فصل الطلاب البيض عن الأفارقة في مدارس وجامعات ووسائل نقل منفصلة أمراً مشيناً بل على العكس ممارسة طبيعية جداً حتى منتصف الستينات من القرن الماضي.
المغزى في استقراء التجربة اليابانية هو أن ذلك التحول الجبار في قيم وسلوك اليابانيين لم يكن ليحدث لولا أن الثقافة التقليدية أو بعض مكوناتها كانت تسعفه. إن هذا قد يكون تعبيراً آخر عما نسميه أحياناً «الإرادة» التي من دونها يستحيل إحداث أي تغيير.
الأمر السار هنا أن في ثقافتنا الكثير مما يدعم ويعلي قيمة العمل والاجتهاد ولا يبق أمامنا سوى التخلص من كل تلك الشوائب الطارئة التي لحقت بثقافتنا الأصيلة هنا في الخليج.