نشر الباحث المشارك في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، سعيد عكاشة، الثلاثاء الماضي 10 أكتوبر 2017، مقالاً مطولاً يناقش فيه كتاباً لبروفيسور إسرائيلي يدعى يوري بار-جوزيف، صدر في أغسطس 2016 حول الراحل أشرف مروان، زوج منى عبد الناصر، الابنة الثانية للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
الكتاب المعنون «الملاك الجاسوس الذي أنقذ إسرائيل»، يعيد من جديد رواية إسرائيلية متكررة، تصر على أن أشرف مروان لم يكن عميلاً مزدوجاً، بل عميلاً إسرائيلي حصراً. لقد ناقش الباحث عكاشة، مضمون الكتاب، وتكفل في تحليل دقيق وذكي من دحض القصة الإسرائيلية، مؤكداً من جديد على الرواية المصرية حول أشرف مروان، باعتباره اختراقاً مصرياً للمخابرات الإسرائيلية، ضمن خطة الخداع الاستراتيجي التي سبقت حرب أكتوبر 1973. (انظر المقال على هذا الرابط: acpss.ahram.org.eg/News/16421.aspx).
لقد سبق لي أن تعرضت لهذا الموضوع في مقال نشر في البيان في 20 أبريل من هذا العام، بعنوان «كيف نبني آراءنا، منى عبد الناصر» بعد انتشار لقطات فيديو لحفل زواج ابن أشرف مروان ومنى عبد الناصر، والإشاعات التي ارتبطت بنشر هذا الفيديو، حول حضور السفير الإسرائيلي لهذا الحفل.
وقبل نشر مقال عكاشة، استلمت رسالة عبر الهاتف النقال عن الكتاب، وخبراً إضافياً عن اعتزام شركة إنتاج سينمائي أميركية، إنتاج فيلم عن أشرف مروان، بناء على كتاب «الملاك» المشار إليه آنفاً. السؤال الهام هنا: لماذا تصر إسرائيل على تكرار روايتها حول أشرف مروان، مصرة على أنه عميل إسرائيلي حصراً؟، ولماذا تمضي قدماً في الأمر لتلجأ إلى إنتاج فيلم سينمائي لتأكيد هذه الرواية؟.
لقد نشرت إسرائيل رواية مماثلة أيضاً عن رفعت الجمال أو «رأفت الهجان»، كما ظهر في المسلسل التلفزيوني، وادعت أنه كان عميلاً لإسرائيل أيضاً. السؤال من جديد: لماذا اختارت الدعاية الإسرائيلية أن تتحدث عن هاتين الشخصيتين بعد مضي كل هذه السنوات؟.
لن أعيد ما ذهب إليه عكاشة من حجج وأسانيد، لكنني سأضيف إلى ما ذهب إليه عكاشة، حول جزئية تجنيد أشرف مروان. جميع الروايات المصرية والإسرائيلية التي سبقت نشر هذا الكتاب (الملاك)، تؤكد أن أشرف مروان أثناء عمله في السفارة المصرية في لندن، هو من بادر إلى الاتصال بالإسرائيليين، عارضاً عليهم خدماته. لم يتمكن مؤلف الكتاب من تغيير هذه الحقيقة، إلا بالقول إنه اتصل هاتفياً بالسفارة، ولم يذهب إلى مبناها، مثلما هي رواية إسرائيلية سابقة. الخلاصة الأهم هنا، أن المبادرة جاءت من أشرف مروان نفسه.
لهذه الجزئية أهمية يغفل عنها كثيرون. إن زرع الجواسيس لدى الأعداء، تقليد قائم منذ أقدم العصور، وحتى يومنا هذا، وأفضل ما يمكن أن ينطبق على قصة أشرف مروان هنا، في العصر الحديث، هي قصص المنشقين الروس المزيفين، الذين «تدفقوا من قلب جهاز الاستخبارات السوفييتية» إلى الغرب في ستينيات من القرن الماضي.
لقد شرح رايت كيف أن أجهزة الاستخبارات الغربية، كانت ترفض غالبية الروس الذين كانوا يبادرون بالاتصال بها، وذهب ضابط «الإم آي 5» السابق بيتر رايت، الذي كرس كتابه «صائد الجواسيس»، لكشف الاختراق السوفييتي لأجهزة المخابرات البريطانية منذ الثلاثينيات وحتى السبعينيات، إلى الاستنتاج بأن غالب الذين انشقوا من جهاز الكي جي بي، وعرضوا خدماتهم على أجهزة المخابرات الغربية (البريطانية والأميركية)، كانوا منشقين مزيفين، أرسلهم الروس ضمن خطة تضليل واسعة.
لقد اشترك هؤلاء في أمرين: الأول (حسب بيتر رايت)، أنهم كانوا يقدمون رواية وحيدة، هي «تخلف تقنيات الصواريخ الروسية عن نظيرتها الغربية». الثاني: هو أنهم كانوا لدعم مصداقيتهم، يقدمون وثائق أصلية. لقد علق رايت على ذلك أنه من غير المعقول أن يسرق هؤلاء الجواسيس «المفترضين»، وثائق أصلية دون أن يشعر الروس بفقدانها.
هذا بالضبط ما ينطبق على حالة أشرف مروان، لقد بادر هو بالاتصال بالإسرائيليين، أما غطاؤه الذي شكل طعماً مغرياً، فهو حياة البذخ التي ظهر بها في لندن، لكي يوحي للإسرائيليين بأنه إنسان مادي، ويسعى وراء الملذات. أما وثائقه التي كان يقدمها للإسرائيليين (بمعرفة المخابرات المصرية)، فقد كانت أصلية، لكي يدعم مصداقيته لديهم.
الخلاصة أن أشرف مروان يمثل قصة إخفاق مرير للاستخبارات الإسرائيلية وأساطيرها، مثله مثل رفعت الجمال وآخرين. كل ما تفعله أجهزة استخبارات إسرائيل الآن، هو تحويل قصة إخفاق إلى قصة نجاح وهمية. الهدف من هذا سيبقى هو ترسيخ أسطورة التفوق الإسرائيلي لدى العرب، وتكريس مشاعر الهزيمة النفسية لديهم جيلاً وراء جيل.
المؤسف في هذا كله، أن أكثر من يقدم خدمة مجانية للدعاية الصهيونية، هم فئة من المثقفين والصحافيين والكتاب العرب، الذين يقومون بإعادة إنتاج قصص الدعاية والحرب النفسية الإسرائيلية دون تدقيق، ودون تمحيص فيها، ودون طرح الأسئلة الضرورية حولها.